دخل (صلى الله عليه وسلم ) المسجد لصلاة الفجر فعثر بالحارثة فسأله كيف أصبحت يا حارثه ؟ فقال ألحارثه أصبحت مؤمناًً حقاًً يا رسول الله, فقال (صلى الله عليه وسلم) لكل قول حقيقة فما حقيقة إيمانك ؟ فقال الحارثة:
لقد عزفت نفسي عن الدنيا أسهرت ليلي وأظمأت نهاري وكأني انظر إلى عرش ربي بارزا , وكأني أرى أهل الجنة في الجنة يتزاورون وكأني أرى أهل النار في النار يتعادون أو يتعاون ,فقال عليه الصلاة والسلام نور الله قلبك عرفت فألزم .
من هذا الحديث يتبن بأن للأيمان حقيقة وصوره فإذا ما كانت حقيقة الأيمان في قلب العبد فلا بد من إن تكون هناك شواهد تدل على ذلك لأن الأيمان ليس مجرد كلام باللسان فالشواهد التي تحدث عنها الحارثة في هذا الحديث أربعة :
1. شاهد من الدنيا( لقد عزفت نفسي عن الدنيا) وهو أول شواهد السائر إلى الله تعالى والدار الآخرة فلا يرى من الدنيا إلا حقارتها وقلة وفائها وكثرة جفائها وخسة شركائها وسرعة انقضائها ويرى أهلها وعشاقها صرعى حولها قد بدعت بهم وعذبتهم بأنواع العذاب وإذاقتهم مر الشراب أضحكتهم قليلا وأبكتهم طويلا وسقتهم بكؤوس سمها بعد إن سقتهم كؤوس خمرها فسكروا بحبها وماتوا بهجرها . فإذا ما جاء هذا الشاهد في قلب العبد اخذ يبحث عن كل ما يبعده عن هذه الدنيا الملعونة الزائلة فيرحل بقلبه ويسافر به طالبا الدار الآخرة فيأتي الشاهد الثاني من شواهد الأيمان
2. شاهد من الآخرة( وكأني انظر إلى عرش ربي بارزا ...) فلا يرى إلا إن الدار الآخرة هي الدار الدائمة وهي الحياة حقاًً فأهلها لا يرتحلون منها بل هي دار القرار ومحط الرحال ومنتهى السير وان الدنيا في الآخرة كما يجعل أحدكم إصبعه في اليم فلينظر بما يرجع.
3. شاهد من الجنة ( وكأني ارى اهل الجنة في الجنة يتزاورون ) وهو الشاهد الثالث من شواهد حقيقة الأيمان ومع هذا الشاهد تصبح الجنة مطلب العبد المؤمن ويراها كأنها رؤيا العين فيرى فيها ما أعده الله لأهلها مما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر فتربتها المسك وإحصاؤها الدر وبناءها لبنة من ذهب ولبنة من فضة .. شربها احلي من العسل وأطيب رائحة من المسك وأبرد من الكافور.. نساؤها الحور العين كأمثال اللؤلؤ المكنون لو برز وجه إحداهن على الدنيا لحجب نور الشمس.. لباسهم الحرير وطعامهم لحم طير مما يشتهون وفاكهتهم كثيرة لا مقطوعة ولا ممنوعة . فإذا ما جاء هذا الشاهد في قلب العبد سار إلى ربه أسرع من سير الرياح في مهابها فلا يلتفت يميناًً ولا شمالاًً .
4. شاهد من النار( وكأني ارى اهل النار في النار يتعادون ) وهو الشاهد الرابع من شواهد الأيمان الحقيقي فيصبح العبد وكأنه يرى أهل النار في النار يتعادون أو يتعاون وتصبح النار وكأنها رؤيا العين فيرى فيها مالا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر مما توعد الله بت العصاة والكافرين .. فيرى النار وتوقدها وعظيم عذاب أهلها .. فيرى أهل النار وقد سيقوا إليها سود الوجوه والسلاسل والأغلال في أعناقهم وقد فتحت أبوابها في وجوههم .. إن جهنم كانت مرصاد للطاغين مآبا .... .
هذه شواهد أربعة كانت في قلب الحارثة رضي الله عنه فإذا ما جاءت بقلب أي عبد من عباد الله سوف ينخلع من الذنوب والمعاصي وإتباع الشهوات ويلبس ثياب الخوف والحذر وهان عليه كل مصيبة تصيبه في غير دينه ويصبح قلبه مؤمناًً حقا سائراًً إلى الله عز وجل والدار الأخرى فيأتي في قلبه اليقين التام على عظمة الله سبحانه وتعالى وحقيقة التوكل عليه , عندئذ يأتي بقلبه الشاهد الحقيقي للأيمان فيرى الله جل جلاله بقلبه بأنه قيوماًً قاهراًً فوق عباده .. منفرد بتدبير ملكه, يرضى ويغضب, ويثيب ويعاقب, ويعطي ويمنع, ويعز ويذل, ويرحم إذا استرحم ويغفر إذا أستغفر ويعطي إذا سئل ويجيب إذا دعي... يراه اكبر من كل شيء واعز من كل شيء واقدر من كل شيء واعلم من كل شيء واحكم من كل شيء.
وبعد الشاهد الحقيقي يمتلئ قلب العبد بالخشوع والخضوع لله سبحانه وتعالى في شتى نواحي حياته وخاصة في صلاته إذ إن الخشوع والخضوع ما هي إلا نتاج وثمار لليقين .