لم تكن الهجرة النبوية المشرفة مجرد انتقال جغرافي للنبي صلي الله عليه وسلم أو أصحابه من مكان إلي آخر فحسب, بل كانت إيذانا ببدء مرحلة تاريخية جديدة, معلنة انتهاء عصر الرسالات المرحلية المحدودة, وتمهيدا لعموم الرسالة النبوية علي كل ما سبقها, وهذا ما قرره القرآن الكريم في مواضع عدة, يقول تعالي:( هو الذي أرسل رسوله بالهدي ودين الحق ليظهره علي الدين كله)( التوبة/33).
وإذا كان المناهضون لفكرة عالمية الإسلام يرون أن الإسلام ليس إلا دينا محليا محدودا, وأن الرسول صلي الله عليه وسلم ما أرسل إلا إلي قومه فقط, مثله في ذلك مثل سابقيه من الأنبياء, متكئين في ذلك إلي التأويل الخاطئ لقوله سبحانه( وكذلك أوحينا إليك قرآنا عربيا لتنذر أم القري ومن حولها..)( الشوري/7), ومن ثم يرون الدعوة هنا إقليمية ينبغي لها ألا تتعدي حدودها, فهذا القول والاعتقاد تبطله هجرته صلي الله عليه وسلم إلي المدينة, وما سبقها من إرسال مصعب بن عمير ـ رضي الله الله عنه ـ سفيرا للمدينة لدعوة أهلها قبل الهجرة, وهي المهمة التي أنجزها مصعب بنجاح ودبلوماسية عالية.
كما تمثل الهجرتان الأولي والثانية إلي الحبشة بعدا مهما في عالمية الدعوة, ففيها امتداد عبر الحدود لا توقفه التقسيمات الجغرافية, فـ إفريقيا ـ بلا شك ـ كانت بعيدة بالمقارنة بـ اليمن والشام التي كانت ترتبط بعلاقات اقتصادية مع( مكة), ولكن رغبته صلي الله عليه وسلم في إنشاء روابط قوية مع الأحباش جعلته يأمر المسلمين بالهجرة إليها.
وهناك من يري قوله تعالي: وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليبين لهم..( إبراهيم/4) قاعدة عامة للرسالات, وهذا في القياس باطل, وفيه( لي واضح) لرءوس الآيات, واستشهاد في غير محله, فالآية لا تنفي عن الإسلام عالميته, لأن الرسل جميعا أرسلوا إلي أقوامهم, ولم يكن منهم عام الرسالة إلا( نوح عليه السلام) فإنه عم برسالته جميع الإنس بعد الطوفان, أما الرسول صلي الله عليه وسلم فقد أرسل للعالمين, وعندنا من النقل والعقل ما يؤيد ذلك.
والناظر إلي الأدلة النقلية سواء من القرآن أو السنة يلمس وضوح دلالتها بما لا يحتاج إلي عناء أو تأويل, فمن هذه الأدلة قوله تعالي لنبيه صلي الله عليه وسلم( قل يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعا)( الأعراف/158), وقوله( تبارك الذي نزل الفرقان علي عبده ليكون للعالمين نذيرا)( الفرقان/1), وهو ما يؤكده القرآن في قوله تعالي( وما أرسلناك إلا كافة للناس بشيرا ونذيرا)( سبأ/28), وقوله: وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين( الأنبياء/107).
هناك حقيقة أخري ينبغي الوقوف أمامها بتأمل, وهي أن كون الرسول صلي الله عليه وسلم خاتما للأنبياء والمرسلين يستلزم بطبيعة الحال أن تكون دعوته عالمية, وإلا فكيف تصل رسالة الله بعد النبي الخاتم إلي الناس متعدية الجغرافيات, ومتخطية الحواجز, وهو ما أكده القرآن في قول الله تعالي( ما كان محمد أبا أحد من رجالكم ولكن رسول الله وخاتم النبيين...)( الأحزاب/40).
أما السنة النبوية المطهرة فقد اهتمت هي الأخري بتأكيد خصيصة العالمية باعتبارها من مرتكزات الإسلام ودعائمه, ففي الحديث المتفق عليه أن رسول الله صلي الله عليه وسلم قال: أعطيت خمسا لم يعطهن أحد من الأنبياء قبلي... وعد منها: وكان النبي يبعث إلي قومه خاصة, وبعثت إلي الناس عامة.
ولنا الآن أن نتساءل: إذا كان هذا الدين قد أنزل علي النبي صلي الله عليه وسلم لينذر أهله وعشيرته فقط, فما الذي يجعله يبخع نفسه في سبيل تبليغها للقاصي والداني, ويهاجر من مكة إلي المدينة؟! ولماذا لم يتخل عن هذا العناء وتلك المشقة التي عاتب الله تعالي نبيه بقوله: فلعلك باخع نفسك علي آثارهم إن لم يؤمنوا بهذا الحديث أسفا( الكهف/6) وقوله( فلا تذهب نفسك عليهم حسرات)( فاطر/
.
ثم ما الذي جعله يبعث الرسائل إلي( هرقل) وإلي( المقوقس) كبير القبط بمصر ورسائل أخري كثيرة؟!.
ألم يكن صلي الله عليه وسلم في غني عن تمزيق رسالته من جانب كسري الذي أساء الأدب في التعامل معها!!.
لقد تجسدت عالمية الرسالة بمضامينها الجديدة اللا محدودة في عصر النبي صلي الله عليه وسلم الذي استوعب عدة ثقافات حتي في بداية دعوته بمكة, فقد كان من بين أصحابه خليط من أجناس مختلفة, فمنهم( الحبشي), و(الفارسي), و(الرومي), فعن أنس قال: قال صلي الله عليه وسلم( السباق أربعة: أنا سابق العرب, وصهيب سابق الروم, وسلمان سابق فارس, وبلال سابق الحبش), وقد استفاد النبي صلي الله عليه وسلم من هذا المزيج فكان انفتاحه علي( الفرس) و(الروم) و(الأحباش) من قبلهم.
وكانت ثقة النبي صلي الله عليه وسلم كبيرة في أن المسلمين سيحملون مشاعل الإسلام للإنسانية جمعاء, ليخرجوا الناس من عبادة العباد إلي عبادة رب العباد ـ علي حد تعبير الصحابي( ربعي بن عامر), رضي الله عنه ـ ففي حديث الإمام مسلم أنه صلي الله عليه وسلم قال: إنكم ستفتحون( مصر) وهي أرض يسمي فيها( القيراط), فإذا فتحتموها, فأحسنوا إلي أهلها, فإن لهم ذمة ورحما, أو قال ذمة وصهرا..
ليس هذا فحسب, بل إن الأمر قد تعدي ذلك فقد طوي الله ـ سبحانه وتعالي ـ الأرض لنبيه صلي الله عليه وسلم ليستشرف مستقبلها فإذا بها ستدين للمسلمين في كل شبر منها, يقول النبي صلي الله عليه وسلم في حديث الإمام مسلم إن الله زوي لي الأرض, فرأيت مشارقها ومغاربها, وإن أمتي سيبلغ ملكها ما زوي لي منها...).
والحقيقة أن المسلمين في العصور التالية للنبي صلي الله عليه وسلم لم يدخروا وسعا بعد وفاة النبي صلي الله عليه وسلم في نشر الإسلام في ربوع الأرض, ففتحت الشام والعراق ومصر, وامتدت الدولة الإسلامية من الصين شرقا إلي أوروبا غربا, حتي إن الخليفة العباسي هارون الرشيد كان يجلس في شرفة قصره ويخاطب الغمامة قائلا: أمطري حيث شئت فسوف يأتيني خراجك!!.
وهكذا يتأكد لنا أن عالمية الإسلام وشموليته لكل الأجناس والأقوام في كل زمان ومكان أمر ثابت بالعقل والنقل معا, فالإسلام ليس دينا محليا جامدا يقتصر علي قطر دون قطر, ولا تمايز فيه للون علي آخر, ولا غرو أن القائلين بمحليته قد جانبهم الإنصاف, وخالفهم الصواب, فما جاء الإسلام إلا دينا قيما يعم أرجاء العالم قاطبة, ويسكب النور في جنباته, ويذيب العصبيات والاثنيات التي رانت علي نفوس البشرية فما زادتها إلا طغيانا كبيرا.
ولقد أرسي القرآن الكريم قاعدة ثابتة للربط بين الشعوب مهما اختلفت ثقافاتها, جمعتها كلمة في كتاب الله هي( لتعارفوا) وإلي ذلك أشارت الآية الكريمة( يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثي وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم إن الله عليم خبير)( الحجرات/13).
فهل من عود إلي تعاليم هذا الدين الحنيف وتبليغه للأخذ بيد البشرية إلي مراشدها كما أراد الله تعالي له؟! أم سيظل المسلمون في سباتهم منشغلين بأنفسهم دون غيرهم؟