لست بطبعي من المهتمين بأفلام مصاصي الدماء، وبما تحويه من مخالفات عدة للدين والأخلاق، والمنطق .. هذا فضلاً عن أنها تحمل الكثير والكثير من الخزعبلات صعبة التصديق.
ولكن للعجب هي ثقافة شديدة الرواج في الغرب وأفلامها لها معجبيها ومحبيها، وأصبحت فن خاص له طقوسه وجوّه الخاص، وله من المبدعين والمخرجين المتخصصين من ذاع صيتهم وزادت شهرتهم بمثل هذه الأفلام.
ولكن ما أصل قصص مصاصي الدماء؟ وهل يوجد مصاص دماء حقيقي بالفعل؟
لكي نجيب على هذا السؤال نحتاج إلى أن نعود إلى الماضي ، بالتحديد في نهايات القرن التاسع عشر لنعرف من أين بدأت القصة، التى تحولت إلى ثقافة مترسخة في عالم الأدب والسينما.
في نهايات القرن التاسع عشر كان هناك مسرح يعاني من كساد شديد في زواره، وأوشك مدير المسرح واسمه (برام ستوكر – Bram Stoker) على الإفلاس , فكان يقضي الساعات والأيام الطوال في المسرح كئيباً مهموماً.
وذات يوم بينما هو جالس في مسرحه يحاول البحث عن حل يخرج مسرحه من هذا الركود، إذ سمع أحدهم يصرخ بالخارج أنهم قبضوا على رجل عجيب الشكل يشرب الدماء البشرية، فتعجب (برام ستوكر) وبدأ في البحث عن أصل هذه القصة.
فوجد أنهم بالفعل قبضوا على رجل مريض بمرض نادر ناتج عن نقص مادة البروفيرن في الدم والتي تمد الجسم بحاجته من الحديد حتى أنهم سموا هذا المرض (البورفيريا – Porphyry) وتكون أعراض هذا المرض عجيبة مثيرة للخوف والاشمئزاز.
إذ أن المريض يكون لونه شاحباً، وعينيه غائرتين، لا يحتمل ضوء الشمس، لذلك يفضل العيش في الظلام دوماً، يكره الماء بصفة عامة وخاصة الماء الجاري، والأخطر من هذا كله أنه يشعر بألم شبه مستمر في المعدة ولا يرتاح إلا نزل في معدته بعض الدماء.
وعليه قام المقبوض عليه بجريمة قتل، طمعاً في شرب دماء الضحية.
ولم تمر القصة على (برام ستوكر) مر الكرام .. فأخذ ينظر إليها على أنها الحل للخروج من هذه الأزمة التي يعانيها مسرحه.
كان قد قرأ منذ فترة أخبار تاريخية عن كونت روماني في بنسلفانيا، كان شديد الدموية، إذ كان يقوم بأسر جنود الاحتلال الأتراك ويصحبهم إلى قبو قصره ويقوم بتعذيبهم، بل التلذذ والاستمتاع بتعذيبهم .. كان هذا الكونت اسمه .. ( دراكيولا – Dracula )
ويصف التاريخ مدى دموية هذا الرجل، حيث جمع في يوم واحد أكثر من 5000 عجوز وفقير ومسكين من كبار السن والعجائز، وقام بعمل وليمة ضخمة لهم، وسألهم: هل تريدون أن أريحكم من العناء الذي تعيشون فيه؟ فأجابوا أن نعم، فقام بجمع كتل الأخشاب حولهم وأشغل فيهم النار.
هذا الكونت الدموي على الرغم من دومويته يعتبر بطلاً قومياً في رومانيا، حيث سبب الكثير من المتاعب للأتراك، ويُقال أنه كان يستخدم الخازوق لتعذيب الأسرى، ويعلق جثثهم في الطريق إلى القلعة.
وبفكرة إبداعية جديدة يقوم (برام ستوكر) بالربط بين الكونت عاشق الدماء – الكونت دراكيولا – ومريض شرب الدماء، لتخرج إلى الوجود قصة من أشنع القصص الروائية .. قصة الكونت (دراكيولا) مصاص الدماء.
قام (ستوكر) بالطبع بمعالجة القصة بإسلوبه، إذ استغل قصر الكونت ذو التاريخ الدموي ليجتذب إليه الكونت الضحايا، وجعل ضحايا الكونت ينهضون من موتهم ليتحولوا بدورهم إلى مصاصي دماء.
جعل الكونت يتأثر بالرموز المقدسة، كالصليب والإنجيل والماء المقدس – بحسب عقيدتهم – وأيضاً يتأثر بالثوم والفضة، وينام طوال النهار في تابوت شنيع الشكل، ويستيقظ بالليل ليبحث عن ضحاياه، وعنده إمكانية الاختفاء، والتحول إلى خفاش، وأيضاً لا يوجد إنعكاس له على الأسطح والمرايا، ويحترق إذا تعرض للشمس
قام (ستوكر) بصياغة القصة بإسلوبه، وأعلن عنها، وقام باختيار الممثلين المناسبين للقصة، ليبرعوا في أدائهم ولتزداد أرباح مسرح (ستوكر) في فترة قياسية ليتجاوز الرجل محنته، وينسى أمر (الكونت دراكيولا) بالكلية، ويتفرغ لمؤلفاته الأخرى غير متصور مدى الشهرة التي ستنالها تلك الشخصية.
ولم تكن هذه هي النهاية .. بل كانت البداية لعالم مصاصي الدماء.
فعلى الرغم من أن (ستوكر) لم يكتب عن مصاصي الدماء إلا قصة واحدة فحسب، إلا أن المعالجات التي تمت للقصة كانت عديدة بشكل ملفت للانتباه، وانتشرت مئات الأفلام من شركة هامر ثم قلعة هوليود لتنتج العديد من الأفلام متمايزة النجاح، وانطلق الكتاب بخيالاتهم ليصنعوا قصصاً درامية، وخيال علمي، وخيال حر حول نفس المعنى وبمعالجات مختلفة.
ولكن يبق السؤال: هل يوجد مصاص دماء حقيقي؟
في الواقع أنه كما أسلفنا فإن المرض ليس بصورته التي صورها العامة، أو رسمها برام ستوكر لشخصية مصاص الدماء، فإن مرض (البورفيريا) من الأمراض شديدة الندرة التي تؤثر على الجهاز العصبي، وتغير لون بول وبراز المرضى إلى اللون الأرجواني.
يشعر المريض بهياج عصبي شديد، وصعوبة في اتخاذ القرارات، وعدم إتزان عام، ويُظن أن هذا هو المرض الذي أصيب به الملك جورج الثالث وتسبب في جنونه الظاهري.
وفي حالات شديدة الندرة من أنواع مرض البورفيريا يعاني المريض من آلام في المعدة والقيي ويكون بحاجة إلى شرب بعض الدماء، بها تحصل راحته، وما الحالة التي وجدت أيام ستوكر إلا حالة شاذة لمريض صعُب على أطباء العصر تشخيصه.
تخيل الآن أنه يوجد مريض بورفيريا يسكن في الحي الذي تسكنون فيه، ستجد أن لونه يشحب، ويظهر بالليل ولا يظهر بالنهار، ويشعر بآلام شديدة في معدته، ولا يميل إلى أكل الطعام الذي يأكل منه الجميع، ولون بوله وبرازه أرجواني، و .. ويرتاح لشرب الدماء .. فإذا رأيت هذا يوماً في الحيّ الذي تسكن فيه .. فلا تظنه مصاص دماء