روى الإمام أحمد في مسنده عن السيدة عائشة- رضي الله عنها- أنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم– يعني في أهل الكتاب:"إِنَّهُمْ لاَ يَحْسُدُونَنَا عَلَى شَيءٍ كَمَا يَحْسُدُونَنَا عَلَى يَوْمِ الْجُمَعةِ، التَّي هَدَانَا اللهُ إِلَيْهَا، وَضَلُّوا عَنَّهَا، وَعَلَى الْقِبْلَة التَّي هدَانَا اللهُ إِلَيْهَا وَضَلُّوا عَنْهَا، وَعَلَى قَوْلِنَا خَلْفَ الإِمَامِ آمِين".
والأمة الإسلامية أمة الوسط، ووسط الشيء أعدله، والعدل كله خير، وهي صاحبة المنهج الوسط الذي يرفض الغلو والتعصب، ويقر التسامح ويأمر بالتراحم والتعاون، وهي أمة لها مكانة القوامة على البشرية، الشهادة عليها، وتعطي ما عندها لأهل الأرض جميعًا.
ولقد مضى شهر رجب وذكر المسلمون فيه معجزة الإسراء والمعراج، واحتفوا بالذكرى في كل أقطارهم، احتفاءً لم يُؤثر عن أسلافهم؛ لأنهم كانوا يعيشون حقائق هذه الذكريات، فكانوا في غنى عمَّا نفعله اليوم.
إنهم عاشوا حقيقة الإسراء والمعراج في صلة نبيهم بالسماء، وفي أمانته على الوحى، وفي التسليم المطلق والعمل الجاد والتنفيذ الجازم والتطبيق لكل ما بلَّغ عن ربه حتى صاروا إسلامًا متحركًا، وعاشوا حقيقة الهجرة في الصبر على الابتلاء وهجر الأهل والوطن والتضحية بالمال والنفس في سبيل العقيدة.
وجاء شهر شعبان وله ارتباط وثيق بالحدث الفذ، تحويل القبلة عن المسجد الأقصى إلى المسجد الحرام في السنة الثانية للهجرة، قبل معركة بدر الكبرى.. وقد أحدث هذا التحويل هزَّة عميقة في مجتمع المدينة.
وتخبرنا الروايات المتعلقة بالحادث أن المسلمين في مكة كانوا يتوجهون في صلاتهم إلى الكعبة، فلمَّا هاجروا إلى المدينة أُمروا بالتوجه إلى بيت المقدس وبعد ستة عشر شهرًا جاء الأمر بالعودة إلى البيت الحرام.. فما سرُّ هذا؟
إنَّ مكانة البيت في نفوس المسلمين عميقة وأصيلة فهو أول بيت وضع للناس، ومع هذا الحبِّ العميق في نفس كل مسلم يأتي الأمر الإلهي بالتوجه إلى بيت المقدس في الصلاة لاستخلاص النفوس والقلوب لله وحده، وليظهر مَن يمتثل لله ولرسوله- ولا ينطق إلا: "سمعنا وأطعنا"- من غيره، فاتباع أمر الله وطاعته والاعتزاز بهذه الطاعة مهما ظهر فيها من مخالفة لمألوف، أو ضياع لمكاسب عاجلة أو أماني وحظوظ هو أصل هذا الطريق،﴿وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ﴾ (البقرة: من الآية143).
يذكر العلماء أنَّ محنة الله لأصحاب رسوله في القبلة، إنما كانت فيما تظاهرت به الأخبار، عند التحويل حتى قال البعض: ما بال محمد يحولنا مرة إلى هنا ومرة إلى هنا، وقال المسلمون، فيمن مضى من إخوانهم وهم يصلون إلى بيت المقدس: "بطلت أعمالنا وأعمالهم وضاعت".
وقال المشركون "تحير محمد في دينه"، وقال اليهود "يتبع قبلتنا ويخالفنا في ديننا"، فكان ذلك كله فتنة للناس واختبارًا وتمحيصًا للمؤمنين، خاصةً وأنهم على أبواب معركة بدر الكبرى.