فلسفة الوقت بين الشرق والغرب
الوقت قد لا يخطر على بال الكثيرين إلا أنه ثروة كبيرة, ثروة وُزّعت بين الناس بالتساوي, فمن استثمر وقته أثراه, ومن أهدره وأضاعه ضاع معه, فهو من أندر الموارد لا يُشترى ولا يُخزّن ولا يُعوّض, وإذا ذهب الوقت ذهب إلى غير رجعة, زميلنا أنيس أبو العلا تناول أهمية الوقت في المجتمعات الغربية الصناعية, وأجرى مقارنة بين الشعوب وكيفية تعاملها مع الوقت ومدى إدراكها لأهميته, فلنتابع معاً.
الوقت من ذهب, الوقت كالسيف إذا لم تقطعه قطعك,... أم هل في التأنّي السلامة وفي العجلة الندامة؟ إنها مجرّد أمثلة محدودة من عدد كبير لا يُحصى من الأمثلة في مختلف ثقافات العالم التي تؤكّد مدى تعقيد علاقة الإنسان بالزمن, محطتنا اليوم تدور إذاً حول الوقت بمفاهيمه المختلفة من حضارة لأخرى, من مجتمع لآخر.
يهرعون في ساعات الصباح المبكرة, يتزاحمون في محطات الأتوبيس وقطارات الأنفاق, ويتدافعون من أجل الوصول إلى أماكن عملهم في الوقت المحدد, إنها دقة المواعيد وتقدير الزمن في المجتمعات الغربية, مجتمعات الإنتاج الصناعي والروبوت الآلي الذي لا يعرف الاعتذار ولا عبارة: "سامحنا تأخّرنا شويّ", لأن غياب دقائق معدودة عن مكان العمل في بلد صناعي يعني: عرقلة عمليات الإنتاج وخسائر تقدر بالمليارات سنوياً, الوقت من ذهب, لطلاب المدارس كما للعمال ورجال الأعمال.
امرأة بريطانية: ضروري جداً أن أذهب بسرعة إلى العمل, نعم أنا في عجلة من أمري.
رجل بريطاني: أنا مستعجل في طريقي إلى العمل.
أنيس أبو العلا: كوكبنا الأزرق يسبح في الفضاء الخارجي كذرة رمل لا مرئية, فوق شواطئ محيطٍ هائلٍ, والكون فسيح لا محدود, بمجرّاته ونجومه البعيدة و القريبة في حركة دائمةٍ أبديةٍ, لا بداية لها ولا نهاية, دوران الأفلاك والمجرّات تماماً كدوران الذرات والصغائر حركة وعن الحركة ينشأ الزمن, ما قبل وما بعد, كلمة الآن تنتهي فور نطقها وتنتقل إلى عداد الماضي, ومن هو الذي يستطيع أن يستحمّ في نفس مياه النهر مرتين؟ لكن عودةً إلى أرض الواقع العملي بعيداً عن تعقيدات الفلسفة تكشف لنا عن أن لكل إنسان زمانه الخاص, طبقاً للمجتمع والحضارة التي ينتمي إليها, فهل يعني هذا أن هناك زمناً عربياً وآخر أوروبياً؟ زمناً شرقياً وزمناً غربياً؟
أحمد فوزي (جامعة عجمان – الإمارات العربية المتحدة): الزمن هو الزمن, والوقت هو الوقت, لكن تعامل البشر مع الزمن والوقت هو المختلف, الوقت - زي ما تعلّمنا من ديننا ومن ثقافتنا - الوقت: هو الحياة, والوقت كالسيف, لكن للأسف دي يعني .. المطبّق عملياً في حياتنا الشرقية خلاف هذا المفهوم تماماً, إحنا عندنا كلمة دائماً الناس متعوّدة تقولها, تقلّك: تعال نضيّع الوقت, تعال نضيّع الوقت يعني تعال نضيّع العمر, هو الإنسان ليه كم عمر عشان يضيّعه؟
أنيس أبو العلا: ساعات.. ساعات.. ساعات, بعضها ثمين والآخر رخيص من البلاستيك الملوّن أو ذهبية, هدفها طبعاً باستثناء الفخر أو المظهرية إذا كانت غالية السعر أو مرصّعة بالأحجار الكريمة تذكيرنا بأهمية الوقت, على الحائط, في الجيب, أو في الميادين العامة, تجارب وخبرات الحياة العملية علّمت الإنسان عبر العصور أن الزمن صديق لمن يقدّره, عدوّ لمن يهمله.
[بينما هو يتكلّم تعرض الكاميرا أصنافاً كثيرة من الساعات، ومنها حوض كبير فيه تجهيزات يتابع المراسل:]
ما هذا؟ إنها ساعة مائية, في بناءٍ وسط برلين, انسياب السائل الأخضر داخل أنابيبها المعقّدة هو الذي يرسم الوقت بالثواني والدقائق, طيلة 24 ساعة يومياً, هل تعلم كم الساعة الآن؟ هذا ليس اختبار ذكاء ولا حزورة، وإنما تذكير بأهمية الوعي بالوقت, والفوارق الجوهرية في التعامل معه بين الحضارات والثقافات غربية وشرقية, الوعي بالزمن عند من يحتسي فنجاناً من الشاي, أو يدخّن نرجيلة في استرخاء, في مجتمعٍ لا يركض خلف المادة لاهثاً وراء المال, يختلف جوهرياً عن هرولة وتيرة الحياة في المجتمعات الصناعية, التعامل مع الزمن في مقهى شرقي عند لعب الورق أو تمضية الوقت في التسلية يختلف إذاً عن التعامل معه في الحضارة الصناعية.
[عرض لعدد كبير من الناس في المقاهي ]
امرأة عربية: والله بالماضي يمكن كان فيه فرق كبير, لكن هلأ بالوقت الحاضر يعني حتى العرب شعروا بقيمة الوقت, يعني حتى فترة الصيف اللّي كانت تمضى وما يستفيد الأهل منها وخاصة للأولاد صاروا يعني بفكّروا أكتر, بعلّموا أولادن الأشياء اللّي ما بيقدروا يتعلّموها بالمدارس, أو اللّي ما عندن استطاعة إنو يتعلّموها، فلأ .. أنا هلأ .. بالوقت الحالي صاير فيه تساوي يعني.
أنيس أبو العلا: لكن وعينا بالزمان كإدراكنا للمكان, قد يصاب أحياناً بالأمراض فيصبح الحس مرضياً, والزمن شظايا, والإدراك خلطاً للزمان بالمكان, على الرغم من أن الإدراك المرضي للزمان أو المكان قد يكون أحياناً فناً أو عبقرية, كما في ساعة سلفادور داري, ألم يقل المثل الشعبي: إن الجنون فنون؟ عودة للفلسفة ومفهومها للزمن:
هل هو مغلق الحدود كالسجن لا مخرج منه؟
هل نحن نعيش داخل الزمن؟ أم أنّ الزمن متغيّر تتبدل داخله المادة من شكل إلى آخر؟
ما يلاحظه الإدراك الإنساني هو أن الوقت الخارجي سطحي مرتبط بالساعة, بالحركة, مفهوم حسابي, يقسّم الوقت إلى كمية تسهيلاً لسير حياتنا اليومية, ثواني, دقائق, ساعات, أيام, شهور, سنوات، قرون, على العكس من الزمن الداخلي, الشعور النفسي حيث تصبح دقيقة الحزن ثقيلة كدهر, ولحظة الحزن أبدية, وليس كساعة نقضيها مع الحبيب تطير سريعة خفيفة الوقع كالفراشة.
لكن مهلاً إلى أين وصلنا؟
وأين كانت البداية؟
بعيداً عن الفلسفة في الزمن الرديء, ورداءة الزمن من صنع أيدينا, وقبل النهاية وكل نهاية هي بالمناسبة بداية لنطرح السؤال التقليدي: لمن تدق الأجراس؟ ربما لتنبيه من غفا, ونسا, أن الوقت كالسيف إذا لم تقطعه قطعك أفراداً وشعوباً وحضارات.