[size=18]** يَابَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُواْ نِعْمَتِي الّتِيَ أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنّي فَضّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ
يذكرهم تعالى بسالف نعمه إلى آبائهم وأسلافهم, وما كان فضلهم به من إرسال الرسل منهم وإنزال الكتب عليهم وعلى سائر الأمم من أهل زمانهم, كما قال تعالى: {ولقد اخترناهم على علم على العالمين} وقال تعالى: {وإذ قال موسى لقومه يا قوم اذكروا نعمة الله عليكم إذ جعل فيكم أنبياء وجعلكم ملوكاً وآتاكم مالم يؤت أحداً من العالمين} قال أبو جعفر الرازي عن الربيع بن أنس عن أبي العالية في قوله تعالى: {وأني فضلتكم على العالمين} قال: بما أعطوا من الملك والرسل والكتب على عالم من كان في ذلك الزمان, فإن لكل زمان عالماً, وروي عن مجاهد والربيع بن أنس وقتادة وإسماعيل بن أبي خالد نحو ذلك, ويجب الحمل على هذا لأن هذه الأمة أفضل منهم لقوله تعالى, خطاباً لهذه الأمة {كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله ولو آمن أهل الكتاب لكان خيراً لهم} وفي المسانيد والسنن عن معاوية بن حيدة القشيري, قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أنتم توفون سبعين أمة أنتم خيرها وأكرمها على الله», والأحاديث في هذا كثيرة تذكر عند قوله تعالى: {كنتم خير أمة أخرجت للناس} وقيل, المراد تفضيل بنوع ما من الفضل على سائر الناس, ولا يلزم تفضيلهم مطلقاً, حكاه الرازي وفيه نظر, وقيل: إنهم فضلوا على سائر الأمم لاشتمال أمتهم على الأنبياء منهم, حكاه القرطبي في تفسيره, وفيه نظر, لأن العالمين عام يشمل من قبلهم ومن بعدهم من الأنبياء, فإبراهيم الخليل قبلهم وهو أفضل من سائر أنبيائهم, ومحمد بعدهم وهو أفضل من جميع الخلق وسيد ولد آدم في الدنيا والاَخرة, صلوات الله وسلامه عليه.
** وَاتّقُواْ يَوْماً لاّ تَجْزِي نَفْسٌ عَن نّفْسٍ شَيْئاً وَلاَ يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلاَ يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلاَ هُمْ يُنْصَرُونَ
لما ذكرهم تعالى بنعمه أولا, عطف على ذلك التحذير من طول نقمه بهم يوم القيامة, فقال: {واتقوا يوماً} يعني يوم القيامة {لا تجزي نفس عن نفس شيئاً} أي لا يغني أحد عن أحد, كما قال {ولا تزر وازرة وزر أخرى}: وقال {لكل امرى منهم يومئذ شأن يغينه} وقال: {يا أيها الناس اتقوا ربكم واخشوا يوماً لا يجزي والد عن ولده ولا مولود هو جازٍ عن والده شيئاً} فهذا أبلغ المقامات أن كلا من الوالد وولده لا يغني أحدهما عن الاَخر شيئاً, وقوله تعالى: {ولا يقبل منها شفاعة} يعني من الكافرين كما قال: {فما تنفعهم شفاعة الشافعين} وكما قال عن أهل النار {فما لنا من شافعين ولا صديق حميم} وقوله تعالى: {ولا يؤخذ منها عدل} أي لا يقبل منها فداء, كما قال تعالى: {إن الذين كفروا وماتوا وهم كفار فلن يقبل من أحدهم ملء الأرض ذهباً ولو افتدى به} وقال: {إن الذين كفروا لو أن لهم ما في الأرض جميعاً ومثله معه ليفتدوا به من عذاب يوم القيامة ما تقبل منهم ولهم عذاب أليم} وقال تعالى: {وإن تعدل كل عدل لا يؤخذ منها} وقال: {فاليوم لا يؤخذ منكم فدية ولا من الذين كفروا مأواكم النار هي مولاكم} الاَية. فأخبر تعالى أنهم إن لم يؤمنوا يرسوله ويتابعوه على ما بعثه به ووافوا الله يوم القيامة على ما هم عليه فإنه لا ينفعهم قرابة قريب ولا شفاعة ذي جاه, ولا يقبل منهم فداء ولو بملء الأرض ذهباً, كما قال تعالى: {من قبل أن يأتي يوم لا بيع فيه ولا خلة ولا شفاعة} وقال: {لا بيع فيه ولا خلال} قال سنيد: حدثني حجاج حدثني ابن جريج قال: قال مجاهد: قال ابن عباس: {ولا يؤخذ منها عدل} قال: بدل, والبدل: الفدية, وقال السدي أما عدل فيعدلها من العدل يقول: لو جاءت بملء الأرض ذهباً تفتدى به ما تقبل منها, وكذا قال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم, وقال أبو جعفر الرازي عن الربيع بن أنس عن أبي العالية في قوله: {ولا يقبل منها عدل} يعني فداء, قال ابن أبي حاتم, وروي عن أبي مالك والحسن وسعيد بن جبير وقتادة والربيع بن أنس نحو ذلك, وقال عبد الرزاق: أنبأنا الثوري عن الأعمش عن إبراهيم التيمي عن أبيه عن علي رضي الله عنه في حديث طويل, قال: والصرف والعدل التطوع والفريضة, وكذا قال الوليد بن مسلم عن عثمان بن أبي العاتكة عن عمير بن هانى وهذا القول غريب ههنا, والقول الأول أظهر في تفسير هذه الاَية, وقد ورد حديث يقويه وهو ما قال ابن جرير: حدثني نجيح بن إبراهيم حدثنا علي بن حكيم حدثنا حميد بن عبد الرحمن عن أبيه عن عمرو بن قيس الملائي عن رجل من بني أمية من أهل الشام أحسن عليه الثناء, قال: قيل يارسول الله, ما العدل ؟ قال «العدل الفدية» وقوله تعالى: {ولا هم ينصرون} أي ولا أحد يغضب لهم فينصرهم وينقذهم من عذاب الله, كما تقدم من أنه لا يعطف عليهم ذو قرابة ولا ذو جاه, ولا يقبل منهم فداء, هذا كله من جانب التلطف, ولا لهم ناصر من أنفسهم ولا من غيرهم, كما قال: {فما له من قوة ولا ناصر} أي أنه تعالى لا يقبل فيمن كفر به فدية ولا شفاعة ولا ينقذ أحداً من عذابه منقذ, ولا يخلص منه أحد, ولا يجير منه أحد, كما قال تعالى: {وهو يجير ولا يجار عليه} وقال: {فيومئذ لا يعذب عذابه أحد ولا يوثق وثاقه أحد} وقال: {مالكم لا تناصرون بل هم اليوم مستسلمون} وقال: {فلولا نصرهم الذين اتخذوا من دون الله قرباناً آلهة بل ضلوا عنهم} الاَية, وقال الضحاك عن ابن عباس في قوله تعالى: {مالكم لا تناصرون} مالكم اليوم لا تمانعون منا, هيهات ليس ذلك لكم اليوم, قال ابن جرير: وتأويل قوله: {ولا هم ينصرون} يعني أنهم يومئذ لا ينصرهم ناصر كما لا يشفع لهم شافع, ولا يقبل منهم عدل ولا فدية, بطلت هنالك المحاباة, واضمحلت الرشى والشفاعات, وارتفع من القوم التناصر والتعاون, وصار الحكم إلى الجبار العدل الذي لا ينفع لديه الشفعاء والنصراء, فيجزي بالسيئة مثلها, وبالحسنة أضعافها, وذلك نظير قوله تعالى: {وقفوهم إنهم مسئولون * ما لكم لا تناصرون ؟ بل هم اليوم مستسلمون}
** وَإِذْ نَجّيْنَاكُم مّنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوَءَ الْعَذَابِ يُذَبّحُونَ أَبْنَآءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَآءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلآءٌ مّن رّبّكُمْ عَظِيمٌ * وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ الْبَحْرَ فَأَنجَيْنَاكُمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنْتُمْ تَنظُرُونَ
يقول تعالى: اذكروا يا بني إسرائيل نعمتي عليكم إذ نجيناكم من آل فرعون يسومونكم سوء العذاب, أي خلصتكم منهم, وأنقذتكم من أيديهم صحبة موسى عليه السلام, وقد كانوا يسومونكم أي يوردونكم ويذيقونكم ويولونكم سوء العذاب, وذلك أن فرعون لعنه الله كان قد رأي رؤيا هالته, رأى ناراً خرجت من بيت المقدس فدخلت بيوت القبط ببلاد مصر إلا بيوت بني إسرائيل, مضمونها أن زوال ملكه يكون على يدي رجل من بني إسرائيل, ويقال بعد تحدث سماره عنده بأن بني إسرائيل يتوقعون خروج رجل منهم يكون لهم به دولة ورفعة, وهكذا جاء في حديث الفتون كما سيأتي في موضعه في سورة طه إن شاء الله تعالى, فعند ذلك أمر فرعون لعنه الله بقتل كل ذكر يولد بعد ذلك من بني إسرائيل وأن تترك البنات, وأمر باستعمال بني إسرائيل في مشاق الأعمال وأرذلها, ههنا فسر العذاب بذبح الأبناء, وفي سورة إبراهيم عطف عليه كما قال: {يسومونكم سوء العذاب ويذبحون أبناءكم ويستحيون نساءكم} وسيأتي تفسير ذلك في أول سورة القصص إن شاء الله تعالى, به الثقة والمعونة والتأييد. ومعنى يسومونكم يولونكم, قاله أبو عبيدة, كما يقال سامه خطة خسف إذا أولاه إياها, قال عمرو بن كلثوم:
إذا ما الملك سام الناس خسفاأبينا أن نقر الخسف فينا
وقيل معناه: يديمون عذابكم, كما يقال سائمة الغنم من إدامتها الرعي, نقله القرطبي, وإنما قال ههنا: {يذبحون أبناءكم ويستحيون نساءكم} ليكون ذلك تفسيراً للنعمة عليهم في قوله: {يسومونكم سوء العذاب} ثم فسره بهذا لقوله ههنا: {اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم} وأما في سورة إبراهيم فلما قال: {وذكرهم بأيام الله} أي بأياديه ونعمه عليهم فناسب أن يقول هناك: {يسومونكم سوء العذاب ويذبحون أبناءكم ويستحيون نساءكم} فعطف عليه الذبح ليدل على تعدد النعم والأيادي على بني إسرائيل وفرعون علم على كل من ملك مصر كافراً من العماليق وغيرهم, كما أن قيصر علم على كل من ملك الروم مع الشام كافراً, وكسرى لمن ملك الفرس, وتبع لمن ملك اليمن كافراً, والنجاشي لمن ملك الحبشة, وبطليموس لمن ملك الهند, ويقال كان اسم فرعون الذي كان في زمن موسى عليه السلام الوليد بن مصعب بن الريان, وقيل مصعب بن الريان, فكان من سلالة عمليق بن الأود بن إرم بن سام بن نوح, وكنيته أبو مرة, وأصله فارسي من اصطخر, وأيّاً ما كان فعليه لعنة الله, وقوله تعالى: {وفي ذلكم بلاء من ربكم عظيم} قال ابن جرير: وفي الذي فعلنا بكم من إنجائنا آباءكم مما كنتم فيه من عذاب آل فرعون بلاء لكم من ربكم عظيم, أي نعمة عظيمة عليكم في ذلك, وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: قوله تعالى: {بلاء من ربكم عظيم} قال: نعمة, وقال مجاهد {بلاء من ربكم عظيم} قال: نعمة من ربكم عظيمة, وكذا قال أبو العالية وأبو مالك والسدي وغيرهم, وأصل البلاء الاختبار وقد يكون بالخير والشر كما قال تعالى: {ونبلوكم بالشر والخير فتنة} وقال: {وبلوناهم بالحسنات والسيئات لعلهم يرجعون} قال ابن جرير: وأكثر ما يقال في الشر بلوته أبلوه بلاء, وفي الخير أبليه إبلاء وبلاء, قال زهير بن أبي سلمى:
جزى الله بالإحسان ما فعلا بكموأبلاهما خير البلاء الذي يبلو
قال: فجمع بين اللغتين لأنه أراد فأنعم الله عليهما خير النعم التي يختبر بها عباده, وقيل: المراد بقوله: {وفي ذلكم بلاء} إشارة إلى ما كانوا فيه من العذاب المهين من ذبح الأبناء واستحياء النساء, قال القرطبي: وهذا قول الجمهور ولفظه بعد ما حكى القول الأول, ثم قال: وقال الجمهور: الإشارة إلى الذبح ونحوه, والبلاء ههنا في الشر, والمعنى في الذبح مكروه وامتحان, وقوله تعالى: {وإذ فرقنا بكم البحر فأنجيناكم وأغرقنا آل فرعون وأنتم تنظرون}, معناه وبعد أن أنقذناكم من آل فرعون وخرجتم مع موسى عليه السلام, خرج فرعون في طلبكم ففرقنا بكم البحر كما أخبر تعالى عن ذلك مفصلاً كما سيأتي في مواضعه ومن أبسطها ما في سورة الشعراء إن شاء الله, {فأنجيناكم} أي خلصناكم منهم وحجزنا بينكم وبينهم وأغرقناهم وأنتم تنظرون, ليكون ذلك أشفى لصدوركم وأبلغ في إهانة عدوكم. قال عبد الرزاق: أنبأنا معمر عن أبي إساحق الهمداني عن عمرو بن ميمون الأودي في قوله تعالى: {وإذ فرقنا بكم البحر ـ إلى قوله ـ وأنتم تنظرون}, قال: لما خرج موسى ببني إسرائيل, بلغ ذلك فرعون, فقال: لا تتبعوهم حتى تصيح الديكة, قال: فوالله ما صاح ليلتئذ ديك حتى أصبحوا, فدعا بشاة فذبحت, ثم قال: لا أفرغ من كبدها حتى يجتمع إليّ ستمائة ألف من القبط, فلما أتى موسى البحر قال له رجل من أصحابه يقال له يوشع بن نون: أين أمر ربك ؟ قال: أمامك, يشير إلى البحر, فأقحم يوشع فرسه في البحر حتى بلغ الغمر, فذهب به الغمر, ثم رجع فقال: أين أمر ربك يا موسى ؟ فوالله ما كذبت ولا كذبت, فعل ذلك ثلاث مرات ثم أوحى الله إلى موسى أن اضرب بعصاك البحر, فضربه فانفلق, فكان كل فرق كالطور العظيم يقول مثل الجبل ـ ثم سار موسى ومن معه, واتبعهم فرعون في طريقهم حتى إذا تتاموا فيه أطبقه الله عليهم, فلذلك قال: {وأغرقنا آل فرعون وأنتم تنظرون} وكذلك قال غير واحد من السلف كما سيأتي بيانه في موضعه, وقد ورد أن هذا اليوم كان يوم عاشوراء, كما قال الإمام أحمد, حدثنا عفان حدثنا عبد الوارث حدثنا أيوب عن عبد الله بن سعيد بن جبير عن أبيه عن ابن عباس, قال: قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة فرأى اليهود يصومون يوم عاشوارء, فقال: «ما هذا اليوم الذي تصومون ؟» قالوا: هذا يوم صالح, هذا يوم نجى الله عز وجل فيه بني إسرائيل من عدوهم, فصامه موسى عليه السلام, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أنا أحق بموسى منكم» فصامه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمر بصومه, وروى هذا الحديث البخاري ومسلم والنسائي وابن ماجه من طرق عن أيوب السختياني به نحو ما تقدم, وقال أبو يعلى الموصلي: حدثنا أبو الربيع حدثنا سلام يعني ابن سليم عن زيد العمي عن يزيد الرقاشي عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «فلق الله البحر لبني إسرائيل يوم عاشوراء» وهذا ضعيف من هذا الوجه, فإن زيداً العمي فيه ضعف, وشيخه يزيد الرقاشي أضعف منه.
** وَإِذْ وَاعَدْنَا مُوسَىَ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ثُمّ اتّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِن بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ * ثُمّ عَفَوْنَا عَنكُمِ مّن بَعْدِ ذَلِكَ لَعَلّكُمْ تَشْكُرُونَ * وَإِذْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَالْفُرْقَانَ لَعَلّكُمْ تَهْتَدُونَ
يقول تعالى: واذكروا نعمتي عليكم في عفوي عنكم, لما عبدتم العجل بعد ذهاب موسى لميقات ربه عند انقضاء أمد المواعدة, وكانت أربعين يوماً وهي المذكورة في الأعراف في قوله تعالى: {وواعدنا موسى ثلاثين ليلة وأتممناها بعشر} قيل إنها: ذو القعدة بكماله وعشر من ذي الحجة, وكان ذلك بعد خلاصهم من فرعون وإنجائهم من البحر, وقوله تعالى: {وإذ آتينا موسى الكتاب} يعني التوراة {والفرقان} وهو ما يفرق بين الحق والباطل والهدى والضلالة {لعلكم تهتدون} وكان ذلك أيضاً بعد خروجهم من البحر كما دل عليه سياق الكلام في سورة الأعراف, ولقوله تعالى: {ولقد آتينا موسى الكتاب من بعد ما أهلكنا القرون الأولى بصائر للناس وهدى ورحمة لعلهم يتذكرون} وقيل: الواو زائدة, والمعنى ولقد آتينا موسى الكتاب الفرقان وهذا غريب, وقيل, عطف عليه وإن كان المعنى واحداً, كما في قول الشاعر:
وقدمت الأديم لراقشيهفألفى قولها كذباً ومينا
وقال الاَخر:
ألا حبذا هند وأرض بها هندوهند أتى من دونها النأي والبعد
فالكذب هو المين, والنأي: هو البعد. وقال عنترة:
حييت من طلل تقادم عهدهأقوى وأقفر بعد أم الهيثم
** وَإِذْ قَالَ مُوسَىَ لِقَوْمِهِ يَاقَوْمِ إِنّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُوَاْ إِلَىَ بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوَاْ أَنفُسَكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لّكُمْ عِنْدَ بَارِئِكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ إِنّهُ هُوَ التّوّابُ الرّحِيمُ
هذه صفة توبته تعالى على بني إسرائيل من عبادة العجل, قال الحسن البصري رحمه الله في قوله تعالى {وإذ قال موسى لقومه يا قوم إنكم ظلمتم أنفسكم باتخاذكم العجل} فقال: ذلك حين وقع في قلوبهم من شأن عبادتهم العجل ما وقع حتى قال تعالى: {ولما سقط في أيديهم ورأوا أنهم قد ضلوا قالوا لئن لم يرحمنا ربنا ويغفر لنا} الاَية. قال: فذلك حين يقول موسى {يا قوم إنكم ظلمتم أنفسكم باتخاذكم العجل} وقال أبو العالية وسعيد بن جبير والربيع بن أنس {فتوبوا إلى بارئكم} أي إلى خالقكم, قلت: وفي قوله ههنا {إلى بارئكم} تنبيه على عظم جرمهم, أي فتوبوا إلى الذي خلقكم وقد عبدتم معه غيره. وقد روى النسائي وابن جرير وابن أبي حاتم من حديث يزيد بن هارون عن الأصبغ بن زيد الوراق عن القاسم بن أبي أيوب عن سعيد بن جبير عن ابن عباس, قال, فقال الله تعالى: إن توبتهم أن يقتل كل واحد منهم من لقي من والد وولد فيقتله بالسيف ولا يبالي من قتل في ذلك الموطن, فتاب أولئك الذين كانوا خفي على موسى وهارون ما اطلع الله على ذنوبهم فاعترفوا بها وفعلوا ما أمروا به فغفر الله للقاتل والمقتول, وهذا قطعة من حديث الفتون وسيأتي في سورة طه بكماله إن شاء الله. وقال ابن جرير: حدثني عبد الكريم بن الهيثم حدثنا إبراهيم بن بشار حدثنا سفيان بن عيينة قال: قال أبو سعيد عن عكرمة عن ابن عباس, قال: قال موسى لقومه: {توبوا إلى بارئكم فاقتلوا أنفسكم ذلكم خير لكم عند بارئكم, فتاب عليكم, إنه هو التواب الرحيم} قال: أمر موسى قومه عن أمر ربه عز وجل أن يقتلوا أنفسهم, قال: وأخبر الذين عبدوا العجل فجلسوا وقام الذين لم يعكفوا على العجل فأخذوا الخناجر بأيديهم وأصابتهم ظلمة شديدة, فجعل يقتل بعضهم بعضاً, فانجلت الظلمة عنهم وقد جلوا عن سبعين ألف قتيل, كل من قتل منهم كانت له توبة, وكل من بقي كانت له توبة. وقال ابن جرير: أخبرني القاسم بن أبي برة أنه سمع سعيد بن جبير ومجاهداً يقولان في قوله تعالى {فاقتلوا أنفسكم} قالا: قام بعضهم إلى بعض بالخناجر يقتل بعضهم بعضاً, لا يحنو رجل على قريب ولا بعيد حتى ألوى موسى بثوبه فطرحوا ما بأيديهم, فكشف عن سبعين ألف قتيل, وإن الله أوحى إلى موسى أن حسبي فقد اكتفيت فذلك حين ألوى موسى بثوبه وروي عن علي رضي الله عنه نحو ذلك, وقال قتادة: أمر القوم بشديد من الأمر فقاموا يتناحرون بالشفار, يقتل بعضهم بعضاً, حتى بلغ الله فيهم نقمته, فسقطت الشفار من أيديهم, فأمسك عنهم القتل فجعل لحيهم توبة, وللمقتول شهادة وقال الحسن البصري: أصابتهم ظلمة حندس, فقتل بعضهم بعضاً ثم انكشف عنهم فجعل توبتهم في ذلك, وقال السدي في قوله {فاقتلوا أنفسكم}قال: فاجتلد الذين عبدوه والذين لم يعبدوه بالسيوف, فكان من قتل من الفريقين شهيداً حتى كثر القتل حتى كادوا أن يهلكوا حتى قتل منهم سبعون ألفاً وحتى دعا موسى وهارون ربنا أهلكت بني إسرائيل ربنا البقية البقية, فأمرهم أن يلقوا السلاح, وتاب عليهم, فكان من قتل منهم من الفريقين شهيداً, ومن بقي مكفراً عنه, فذلك قوله {فتاب عليكم إنه هو التواب الرحيم} وقال الزهري: لما أمرت بنو إسرائيل بقتل أنفسها برزوا ومعهم موسى فاضطربوا بالسيوف وتطاعنوا بالخناجر, وموسى رافع يديه حتى إذا فتر بعضهم, قالوا: يا نبي الله, ادع الله لنا, وأخذوا بعضديه يسندون يديه, فلم يزل أمرهم على ذلك حتى إذا قبل الله توبتهم قبض أيديهم بعضهم عن بعض فألقوا السلاح وحزن موسى وبنو إسرائيل للذي كان من القتل فيهم, فأوحى الله جل ثناؤه إلى موسى, ما يحزنك, أما من قتل منهم فحي عندي يرزقون, وأما من بقي فقد قبلت توبته, فسر بذلك موسى وبنو إسرائيل, رواه ابن جرير بإسناد جيد عنه, وقال ابن إسحاق: لما رجع موسى إلى قومه وأحرق العجل وذراه في اليم, خرج إلى ربه بمن اختار من قومه, فأخذتهم الصاعقة, ثم بعثوا, فسأل موسى ربه التوبة لبني إسرائيل من عبادة العجل, فقال: لا إلا أن يقتلوا أنفسهم, فبلغني أنهم قالوا لموسى: نصبر لأمر الله فأمر موسى من لم يكن عبد العجل أن يقتل من عبده, فجلسوا بالأفنية, وأصلت عليهم القوم السيوف, فجعلوا يقتلونهم, فهشى موسى, وبكى إليه النساء والصبيان يطلبون العفو عنهم, فتاب الله عليهم وعفا عنهم, وأمر موسى أن ترفع عنهم السيوف وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: لما رجع موسى إلى قومه وكانوا سبعين رجلاً قد اعتزلوا مع هارون العجل لم يعبدوه, فقال لهم موسى: انطلقوا إلى موعد ربكم, فقالوا: يا موسى. ما من توبة, قال: بلى, اقتلوا أنفسكم ذلكم خير لكم عند بارئكم فتاب عليكم ـ الاَية: فاخترطوا السيوف والجزرة والخناجر والسكاكين. قال: وبعث عليهم ضبابة, قال: فجعلوا يتلامسون بالأيدي ويقتل بعضهم بعضاً, قال: ويلقى الرجل أباه وأخاه فيقتله وهو لايدري. قال: ويتنادون فيها رحم الله عبداً صبر نفسه حتى يبلغ الله رضاه, قال: فقتلاهم شهداء, وتيب على أحيائهم ثم قرأ {فتاب عليكم إنه هو التواب الرحيم}.
** وَإِذْ قُلْتُمْ يَامُوسَىَ لَن نّؤْمِنَ لَكَ حَتّىَ نَرَى اللّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنظُرُونَ * ثُمّ بَعَثْنَاكُم مّن بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلّكُمْ تَشْكُرُونَ
يقول تعالى: واذكروا نعمتي عليكم في بعثي لكم بعد الصعق إذا سألتم رؤيتي جهرة عياناً مما لا يستطاع لكم ولا لأمثالكم, كما قال ابن جريح, قال ابن عباس في هذه الأية {وإذا قلتم يا موسى لن نؤمن لك حتى نرى الله} قال: علانية, وكذا قال إبراهيم بن طهمان عن عباد بن إسحاق عن أبي الحويرث عن ابن عباس, أنه قال في قول الله تعالى {لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة} أي علانية, أي حتى نرى الله, وقال قتادة والربيع بن أنس {حتى نرى الله جهرة} أي عياناً, وقال أبو جعفر عن الربيع بن أنس: هم السبعون الذين اختارهم موسى فساروا معه, قال: فسمعوا كلاماً, فقالوا {لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة} قال: فسمعوا صوتاً فصعقوا يقول ماتوا. وقال مروان بن الحكم, فيما خطب به على منبر مكة: الصاعقة صيحة من السماء, وقال السدي في قوله {فأخذتكم الصاعقة} الصاعقة: نار, وقال عروة بن رويم في قوله {وأنتم تنظرون} قال: صعق بعضهم وبعض ينظرون, ثم بعث هؤلاء وصعق هؤلاء, وقال السدي {فأخذتكم الصاعقة} فماتوا, فقام موسى يبكي ويدعو الله, ويقول: رب ماذا أقول لبني إسرائيل إذا أتيتهم وقد أهلكت خيارهم {لو شئت أهلكتهم من قبل وإياي أتهلكنا بما فعل السفهاء منا} فأوحى الله إلى موسى أن هؤلاء السبعين ممن اتخذواالعجل, ثم إن الله أحياهم فقاموا وعاشوا رجل رجل, ينظر بعضهم إلى بعض كيف يحيون ؟ قال: فذلك قوله تعالى: {ثم بعثناكم من بعد موتكم لعلكم تشكرون} وقال الربيع بن أنس كان موتهم عقوبة لهم فبعثوا من بعد الموت ليستوفوا آجالهم, وكذا قال قتادة, وقال ابن جرير: حدثنا محمد بن حميد حدثنا سلمة بن الفضل عن محمد بن إسحاق, قال: لما رجع موسى إلى قومه فرأى ما هم عليه من عبادة العجل, وقال لأخيه وللسامري ما قال, وحرق العجل وذراه في اليم, اختار موسى منهم سبعين رجلاً الخير فالخير, وقال: انطلقوا إلى الله وتوبوا إلى الله مما صنعتم, واسألوه التوبة على من تركتم وراءكم من قومكم, صوموا وتطهروا وطهروا ثيابكم. فخرج بهم إلى طور سيناء لميقات وقّته له ربه, وكان لا يأتيه إلا بإذن منه وعلم, فقال له السبعون فيما ذكر لي حين صنعوا ما أمروا به, وخرجوا للقاء الله, قالوا: يا موسى, اطلب لنا إلى ربك نسمع كلام ربنا, فقال أفعل, فلما دنا موسى من الجبل وقع عليه الغمام حتى تغشى الجبل كله, ودنا موسى فدخل فيه, وقال للقوم: ادنوا, وكان موسى إذا كلمه الله وقع على جبهته نور ساطع لا يستطيع أحد من بني آدم أن ينظر إليه, فضرب دونه بالحجاب, ودنا القوم حتى إذا دخلوا في الغمام وقعوا سجوداً فسمعوه وهو يكلم موسى يأمره وينهاه: افعل ولا تفعل, فلما فرغ إليه من أمره انكشف عن موسى الغمام, فأقبل إليهم, فقالوا لموسى {لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة} فأخذتهم الرجفة وهي الصاعقة, فماتوا جميعاً, وقام موسى يناشد ربه ويدعوه ويرغب إليه ويقول {رب لو شئت أهلكتهم من قبل وإياي} قد سفهوا, أفتهلك من ورائي من بني إسرائيل بما يفعل السفهاء منا ؟ أي إن هذا لهم هلاك واخترت منهم سبعين رجلاً الخير فالخير, أرجع إليهم وليس معي منهم رجل واحد, فما الذي يصدقوني به ويأمنوني عليه بعد هذا ؟ {إنا هدنا إليك} فلم يزل موسى يناشد ربه عز وجل ويطلب إليه حتى رد إليهم أرواحهم, وطلب إليهم التوبة لبني إسرائيل من عبادة العجل, فقال: لا, إلا أن يقتلوا أنفسهم ـ هذا سياق محمد بن إسحاق ـ وقال إسماعيل بن عبد الرحمن السدي الكبير: لما تابت بنو إسرائيل من عبادة العجل, وتاب الله عليهم بقتل بعضهم لبعض كما أمرهم الله به, أمر الله موسى أن يأتيه في كل أناس من بني إسرائيل يعتذرون إليه من عبادة العجل وواعدهم موسى, فاختار موسى سبعين رجلاً على عينه, ثم ذهب بهم ليعتذروا, وساق البقية وهذا السياق يقتضي أن الخطاب توجه إلى بني إسرائيل في قوله {وإذ قلتم يا موسى لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة} والمراد السبعون المختارون منهم ولم يحك كثير من المفسرين سواه, وقد أغرب الرازي في تفسيره حين حكى في قصة هؤلاء السبعين: أنهم بعد إحيائهم قالوا: يا موسى إنك لا تطلب من الله شيئاً إلا أعطاك, فادعه أن يجعلنا أنبياء, فدعا بذلك فأجاب الله دعوته, وهذا غريب جداً إذ لا يعرف في زمان موسى نبي سوى هارون ثم يوشع بن نون, وقد غلط أهل الكتاب أيضاً في دعواهم أن هؤلاء رأوا الله عز وجل, فإن موسى الكليم عليه السلام قد سأل ذلك فمنع منه فكيف يناله هؤلاء السبعون ؟
القول الثاني في الاَية: قال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم في تفسير هذه الاَية: قال لهم موسى لما رجع من عند ربه بالألواح قد كتب فيها التوراة فوجدهم يعبدون العجل, فأمرهم بقتل أنفسهم ففعلوا, فتاب الله عليهم, فقال: إن هذه الألواح فيها كتاب الله فيه أمركم الذي أمركم به ونهيكم الذي نهاكم عنه. فقالوا: ومن يأخذه بقولك أنت ؟ لا والله حتى نرى الله جهرة حتى يطلع الله علينا فيقول: هذا كتابي فخذوه, فما له لا يكلمنا كما يكلمك أنت يا موسى, وقرأ قول الله {لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة} قال: فجاءت غضبة من الله فجاءتهم صاعقة بعد التوبة فصعقتهم فماتوا أجمعون, قال: ثم أحياهم الله من بعد موتهم, وقرأ قول الله {ثم بعثناكم من بعد موتكم لعلكم تشكرون} فقال لهم موسى: خذوا كتاب الله, فقالوا: لا, فقال: أي شيء أصابكم ؟ فقالوا: أصابنا أنا متنا ثم أحيينا, قال: خذوا كتاب الله, قالوا: لا, فبعث الله ملائكة فنتقت الجبل فوقهم. وهذا السياق يدل على أنهم كلفوا بعد ما أحيوا. وقد حكى الماوردي في ذلك قولين: أحدهما: أنه سقط التكليف عنهم لمعاينتهم الأمر جهرة حتى صاروا مضطرين إلى التصديق, والثاني: أنهم مكلفون لئلا يخلو عاقل من تكليف, قال القرطبي: وهذا هو الصحيح لأن معاينتهم للأمور الفظيعة لا تمنع تكليفهم لأن بني إسرائيل قد شاهدوا أموراً عظاماً من خوارق العادات, وهم في ذلك مكلفون وهذا واضح, والله أعلم.
** وَظَلّلْنَا عَلَيْكُمُ الْغَمَامَ وَأَنزَلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنّ وَالسّلْوَىَ كُلُواْ مِن طَيّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَمَا ظَلَمُونَا وَلَـَكِن كَانُوَاْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ
لما ذكر تعالى ما دفعه عنهم من النقم, شرع يذكرهم أيضاً بما أسبغ عليهم من النعم, فقال: {وظللنا عليكم الغمام} وهو جمع غمامة, سمي بذلك لأنه يغم السماء أي يواريها ويسترها, وهو السحاب الأبيض ظللوا به في التيه ليقيهم حر الشمس, كما رواه النسائي وغيره عن ابن عباس في حديث الفتون, قال: ثم ظلل عليهم في التيه بالغمام, قال ابن أبي حاتم وروي عن ابن عمر والربيع بن أنس وأبي مجلز والضحاك والسدي نحو قول ابن عباس, وقال الحسن وقتادة {وظللنا عليكم الغمام} كان هذا في البرية, ظلل عليهم الغمام من الشمس, وقال ابن جرير: قال آخرون: وهو غمام أبرد من هذا وأطيب. وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي حدثنا أبو حذيفة حدثنا شبل عن ابن أبي نجيح عن مجاهد {وظللنا عليكم الغمام} قال, ليس بالسحاب هو الغمام الذي يأتي الله فيه يوم القيامة ولم يكن إلا لهم. وهكذا رواه ابن جرير عن المثنى بن إبراهيم عن أبي حذيفة, وكذا رواه الثوري وغيره عن ابن أبي نجيح عن مجاهد وكأنه يريد, والله أعلم, أن ليس من زي هذا السحاب بل أحسن منه وأطيب وأبهى منظراً, كما قال سنيد في تفسيره عن حجاج بن محمد عن ابن جريج, قال, قال ابن عباس {وظللنا عليكم الغمام} قال, غمام أبرد من هذا وأطيب وهو الذي يأتي الله فيه في قوله: {هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام والملائكة} وهو الذي جاءت فيه الملائكة يوم بدر. قال ابن عباس وكان معهم في التيه, وقوله تعالى: {وأنزلنا عليكم المن} اختلفت عبارات المفسرين في المن ما هو ؟ فقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: كان المن ينزل عليهم على الأشجار, فيغدون إليه, فيأكلون منه ما شاؤوا. وقال مجاهد: المن: صمغة, وقال عكرمة: المن: شيء أنزله الله عليهم مثل الطل شبه الرّب الغليظ, وقال السدي, قالوا: يا موسى, كيف لنا بما ههنا, أي الطعام ؟ فأنزل الله عليهم المن, فكان يسقط على شجرة الزنجبيل, وقال قتادة: كان المن ينزل عليهم في محلهم سقوط الثلج أشد بياضاً من اللبن وأحلى من العسل, يسقط عليهم من طلوع الفجر إلى طلوع الشمس, يأخذ الرجل منهم قدر ما يكفيه يومه ذلك, فإذا تعدى ذلك فسد ولم يبق, حتى كان يوم سادسه يوم جمعته أخذ ما يكفيه ليوم سادسه ويوم سابعه لأنه كان يوم عيد لا يشخص فيه لأمر معيشته ولا يطلبه لشيء, وهذا كله في البرية, وقال الربيع بن أنس: المن شراب كان ينزل عليهم مثل العسل فيمزجونه بالماء ثم يشربونه. وقال وهب بن منبه, وسئل عن المن, فقال, خبز رقاق مثل الذرة أو مثل النقى, وقال أبو جعفر بن جرير حدثني محمد بن إسحاق حدثنا أبو أحمد حدثناإسرائيل عن جابر عن عامر, وهو الشعبي, قال: عسلكم هذا جزء من سبعين جزءاً من المن, وكذا قال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: أنه العسل, ووقع في شعر أمية بن أبي الصلت حيث قال:
فرأى الله أنهم بمضيعلا بذي مزرع ولا مثمورافسناها عليهم غادياتوترىَ مزنهم خلايا وخوراعسلاً ناطفاً وماء فراتاوحليباً ذا بهجة مزمورا
فالناطف هو السائل والحليب المرمور الصافي منه, والغرض أن عبارات المفسرين متقاربة في شرح المن, فمنهم من فسره بالطعام, ومنهم من فسره بالشراب, والظاهر, والله أعلم, أنه كل ما امتن الله به عليهم من طعام وشراب وغير ذلك مما ليس لهم فيه عمل ولا كد, فالمن المشهور إن أُكل وحده كان طعاماً وحلاوة, وإن مزج مع الماء صار شراباً طيباً, وإن ركب مع غيره صار نوعاً آخر, ولكن ليس هو المراد من الاَية وحده, والدليل على ذلك قول البخاري: حدثنا أبو نعيم حدثنا سفيان عن عبد الملك عن عمرو بن حريث عن سعيد بن زيد رضي الله عنه, قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «الكمأة من المن وماؤها شفاء للعين» وهذا الحديث رواه الامام أحمد عن سفيان بن عيينة عن عبد الملك وهو ابن عمير به, وأخرجه الجماعة في كتبهم إلا أبا داود من طرق عن عبد الملك وهو ابن عمير به, وقال الترمذي: حسن صحيح, ورواه البخاري ومسلم من رواية الحكم عن الحسن العرني عن عمرو بن حريث به, وقال الترمذي: حدثنا أبو عبيدة بن أبي السفر ومحمود بن غيلان, قالا: حدثنا سعيد بن عامر عن محمد بن عمرو عن أبي سلمة عن أبي هريرة, قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «العجوة من الجنة, وفيها شفاء من السم, والكمأة من المن, وماؤها شفاء للعين» تفرد بإخراجه الترمذي ثم قال: هذا حديث حسن غريب لا نعرفه إلا من حديث محمد بن عمرو وإلا من حديث سعيد بن عامر عنه, وفي الباب عن سعيد بن زيد وأبي سعيد وجابر ـ كذا قال ـ وقد رواه الحافظ أبو بكر بن مردويه في تفسيره من طريق آخر عن أبي هريرة, فقال: حدثنا أحمد بن الحسن بن أحمد البصري, حدثنا أسلم بن سهل حدثنا القاسم بن عيسى حدثنا طلحة بن عبد الرحمن عن قتادة عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الكمأة من المن, وماؤها شفاء للعين» وهذا حديث غريب من هذا الوجه وطلحة بن عبد الرحمن هذا السلمي الواسطي يكنى بأبي محمد وقيل: أبو سليمان المؤدب قال فيه الحافظ أبو أحمد بن عدي: روى عن قتادة أشياء لا يتابع عليها. ثم قال الترمذي: حدثنا محمد بن بشار حدثنا معاذ بن هشام حدثنا أبي عن قتادة عن شهر بن حوشب عن أبي هريرة: أن ناساً من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قالوا: الكمأة جدري الأرض فقال نبي الله صلى الله عليه وسلم «الكمأة من المن وماؤها شفاء للعين والعجوة من الجنة وهي شفاء من السم» وهذا الحديث قد رواه النسائي عن محمد بن بشار به, وعنه عن غندر عن شعبة عن أبي بشر جعفر بن أياس عن شهر بن حوشب عن أبي هريرة به, وعن محمد بن بشار عن عبد الأعلى عن خالد الحذاء عن شهر بن حوشب بقصة الكمأة فقط. وروى النسائي أيضاً وابن ماجه من حديث محمد بن بشار عن أبي عبد الصمد عبد العزيز بن عبد الصمد عن مطر الوراق عن شهر: بقصة العجوة عند النسائي, وبالقصتين عند ابن ماجه, وهذه الطريق منقطعة بين شهر بن حوشب وأبي هريرة, فإنه لم يسمع منه بدليل ما رواه النسائي في الوليمة من سننه عن علي بن الحسين الدرهمي عن عبد الأعلى عن سعيد بن أبي عروبة عن قتادة عن شهر بن حوشب عن عبد الرحمن بن غنم عن أبي هريرة, قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم يذكرون الكمأة وبعضهم يقول: جدري الأرض, فقال «الكمأة من المن, وماؤها شفاء للعين» وروي عن شهر بن حوشب عن أبي سعيد وجابر كما قال الإمام أحمد: حدثنا أسباط بن محمد حدثنا الأعمش عن جعفر بن إياس عن شهر بن حوشب عن جابر ابن عبد الله وأبي سعيد الخدري, قالا: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «الكمأة من المن, وماؤها شفاء للعين, والعجوة من الجنة, وهي شفاء من السم» وقال النسائي في الوليمة أيضاً: حدثنامحمد بن بشار حدثنا محمد بن جعفر حدثنا شعبة عن أبي بشر جعفر بن إياس عن شهر بن حوشب عن أبي سعيد وجابر رضي الله عنهما: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «الكمأة من المن, وماؤها شفاء للعين» ثم رواه أيضاً وابن ماجه من طرق الأعمش عن أبي بشر عن شهر عنهما به, وقد رويا ـ أعني النسائي من حديث جرير وابن ماجه من حديث سعيد ابن أبي سلمة ـ كلاهما عن الأعمش عن جعفر بن إياس عن أبي نضرة عن أبي سعيد رواه النسائي وحديث جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال «الكمأة من المنّ وماؤها شفاء للعين» ورواه ابن مردويه عن أحمد بن عثمان عن عباس الدوري عن لاحق بن صواب عن عمار بن زريق عن الأعمش كابن ماجة, وقال ابن مردويه أيضاً: حدثنا أحمد بن عثمان حدثنا عباس الدوري حدثنا الحسن بن الربيع حدثنا أبو الأحوص عن الأعمش عن المنهال بن عمرو عن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن أبي سعيد الخدري, قال: خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي يده كمآت, فقال «الكمأة من المن, وماؤها شفاء للعين» وأخرجه النسائي عن عمرو بن منصور عن الحسن بن الربيع به: ثم ابن مردويه رواه أيضاً عن عبد الله بن إسحاق عن الحسن بن سلام عن عبيد الله بن موسى, عن شيبان عن الأعمش به, وكذا رواه النسائي عن أحمد بن عثمان بن حكيم عن عبيد الله بن موسى, وقد روي من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه, كما قال ابن مردويه: حدثنا محمد بن عبد الله بن إبراهيم حدثنا حمدون بن أحمد حدثنا حوثرة بن أشرس حدثنا حماد عن شعيب بن الحبحاب عن أنس: أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم تدارؤوا في الشجرة التي اجتثت من فوق الأرض ما لها عن قرار, فقال بعضهم: نحسبه الكمأة, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «الكمأة من المن, وماؤها شفاء للعين, والعجوة من الجنة, وفيها شفاء من السم» وهذا الحديث محفوظ أصله من رواية حماد بن سلمة. وقد روى الترمذي والنسائي من طريقه شيئاً من هذا, والله أعلم. وروي عن شهر عن ابن عباس كما رواه النسائي أيضاً في الوليمة عن أبي بكر أحمد بن علي بن سعيد عن عبد الله بن عون الخراز عن أبي عبيدة الحداد عن عبد الجليل بن عطية عن شهر عن عبد الله بن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال «الكمأة من المن, وماؤها شفاء للعين» فقد اختلف كما ترى فيه شهر بن حوشب ويحتمل عندي أنه حفظه ورواه من هذه الطرق كلها, وقد سمعت من بعض الصحابة وبلغه عن بعضهم, فإن الأسانيد إليه جيدة, وهو لا يتعمد الكذب, وأصل الحديث محفوظ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم كما تقدم من رواية سعيد بن زيد رضي الله عنه.
وأما السلوى, فقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: السلوى طائر شبه بالسماني, كانوا يأكلون منه. وقال السدي في خبره, ذكره عن أبي مالك وعن أبي صالح عن ابن عباس وعن مرة عن ابن مسعود وعن ناس من الصحابة: السلوى طائر يشبه السماني, وقال ابن أبي حاتم: حدثنا الحسن بن محمد بن الصباح حدثنا عبد الصمد بن الوارث حدثنا قرة بن خالد عن جهضم عن ابن عباس, قال: السلوى هو السماني, وكذا قال مجاهد والشعبي والضحاك والحسن وعكرمة والربيع بن أنس رحمهم الله تعالى, وعن عكرمة أما السلوى فطير كطير يكون بالجنة أكبر من العصفور أو نحو ذلك, وقال قتادة: السلوى كان من طير أقرب إلى الحمرة تحشرها عليهم الريح الجنوب وكان الرجل يذبح منها قدر ما يكفيه يومه ذلك فإذا تعدى فسد ولم يبق عنده حتى إذا كان يوم سادسه ليوم جمعته أخذ ما يكفيه ليوم سادسه ويوم سابعه لأنه كان يوم عبادة لا يشخص فيه لشيء ولا يطلبه, وقال وهب بن منبه: السلوى طير سمين مثل الحمامة كان يأتيهم فيأخذون منه من سبت إلى سبت وفي رواية عن وهب قال سألت بنو إسرائيل موسى عليه السلام لحماً فقال الله لأطعمنهم من أقل لحم يعلم في الأرض فأرسل عليهم ريحاً فأذرت عند مساكنهم السلوى وهو السماني مثل ميل في ميل قيد رمح في السماء فخبأوا للغد فنتن اللحم وخنز الخبز, وقال السدي لما دخل بنو إسرائيل التيه قالوا لموسى عليه السلام كيف لنا بما ههنا أين الطعام ؟ فأنزل الله عليهم المن فكان ينزل على شجر الزنجبيل, والسلوى وهو طائر شبه السماني أكبر منه فكان يأتي أحدهم فينظر إلى الطير فإن كان سميناً ذبحه وإلا أرسله فإذا سمن أتاه فقالوا: هذا الطعام. فأين الشراب ؟ فأمر موسى فضرب بعصاه الحجر فانفجرت منه اثنتا عشرة عيناً فشرب كل سبط من عين, فقالوا: هذا الشراب فأين الظل ؟ فظلل عليهم الغمام, فقالوا: هذا الظل فأين اللباس ؟ فكانت ثيابهم تطول معهم كما تطول الصبيان ولا يخترق لهم ثوب, فذلك قوله تعالى {وظللنا عليهم الغمام وأنزلنا عليهم المن والسلوى} وقوله: {وإذا استسقى موسى لقومه فقلنا اضرب بعصاك الحجر فانفجرت منه اثنتا عشرة عيناً قد علم كل أناس مشربهم كلوا واشربوا من رزق الله ولا تعثوا في الأرض مفسدين} وروي عن وهب بن منبه وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم نحو ما قاله السدي, وقال سنيد عن حجاج عن ابن جريج قال: قال ابن عباس خلق لهم في التيه ثياب لا تخرق ولا تدرن, قال ابن جريج, فكان الرجل إذا أخذ من المن والسلوى فوق طعام يوم فسد إلا أنهم كانوا يأخذون في يوم الجمعة طعام يوم السبت فلا يصبح فاسداً, قال ابن عطية السلوى طير بإجماع المفسرين وقد غلط الهذلي في قوله أنه العسل وأنشد في ذلك مستشداً:
وقاسمها بالله جهداً لأنتمألذ من السلوى إذا ما أشورها
قال فظن أن السلوى عسلاً, قال القرطبي: دعوى الإجماع لا تصح لأن المؤرخ أحد علماء اللغة والتفسير قال إنه العسل واستدل ببيت الهذلي وهذا وذكر أنه كذلك في لغة كنانة لأنه يسلي به ومنه عين سلوان, وقال الجوهري: السلوى العسل واستشهد ببيت الهذلي أيضاً, والسلوانة بالضم خرزة كانوا يقولون إذا صب عليها ماء المطر فشربها العاشق سلا, قال الشاعر:
شربت على سلوانة ماء مزنةفلا وجديد العيش يامي ما أسلو
واسم ذلك الماء السلوان, وقال بعضهم السلوان دواء يشفي الحزين فيسلوا والأطباء يسمونه (مفرج), قالوا والسلوى جمع بلفظ الواحد أيضاً كما يقال: سماني للمفرد والجمع وويلي كذلك, وقال الخليل واحده سلواة, وأنشد:
وإني لتعروني لذكراك هزةكما انتقض السلواة من بلل القطر
وقال الكسائي: السلوى واحدة وجمعه سلاوي, نقله كله القرطبي, وقوله تعالى: {كلوا من طيبات ما رزقناكم} أمر إباحة وإرشاد وامتنان, وقوله تعالى: {وما ظلمونا ولكن كانوا أنفسهم يظلمون} أي أمرناهم بالأكل مما رزقناهم وأن يعبدوا كما قال {كلوا من رزق ربكم واشكروا له} فخالفوا وكفروا فظلموا أنفسهم هذا مع ما شاهدوه من الاَيات البينات والمعجزات القاطعات, وخوراق العادات, ومن ههنا تتبين فضيلة أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم ورضي الله عنهم على سائر أصحاب الأنبياء في صبرهم وثباتهم وعدم تعنتهم مع ما كانوا معه في أسفاره وغزواته منها عام تبوك في ذلك القيظ والحر الشديد والجهد لم يسألوا خرق عادة ولا إيجاد أمر مع أن ذلك كان سهلاً على النبي صلى الله عليه وسلم لكن لما أجهدهم الجوع سألوه في تكثير طعامهم فجمعوا ما معهم فجاء قدر مبرك الشاة فدعا الله فيه وأمرهم فملؤوا كل وعاء معهم وكذا لما احتاجوا إلى الماء سأل الله تعالى فجاءتهم سحابة فأمطرتهم فشربوا وسقوا الإبل وملؤوا أسقيتهم ثم نظروا فإذا هي لم تجاوز العسكر. فهذا هو الأكمل في اتباع الشيء مع قدر الله مع متابعة الرسول صلى الله عليه وسلم