وَعَهِدْنَآ إِلَىَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَن طَهّرَا بَيْتِيَ لِلطّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرّكّعِ السّجُودِ * وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبّ اجْعَلْ هَـَذَا بَلَداً آمِناً وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الاَخِرِ قَالَ وَمَن كَفَرَ فَأُمَتّعُهُ قَلِيلاً ثُمّ أَضْطَرّهُ إِلَىَ عَذَابِ النّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ * وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبّنَا تَقَبّلْ مِنّآ إِنّكَ أَنتَ السّمِيعُ الْعَلِيمُ * رَبّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِن ذُرّيّتِنَآ أُمّةً مّسْلِمَةً لّكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَآ إِنّكَ أَنتَ التّوّابُ الرّحِيمُ
قال الحسن البصري: قوله {وعهدنا إِلى إِبراهيم وإِسماعيل} قال: أمرهما الله أن يطهراه من الأذى والنجس, ولا يصيبه من ذلك شيء, وقال ابن جريج: قلت لعطاء: ما عهده ؟ قال: أمره. وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم {وعهدنا إِلى إِبراهيم} أي أمرناه كذا, قال: والظاهر أن هذا الحرف إِنما عدي بإِلى لأنه في معنى تقدمنا وأوحينا, وقال سعيد بن جبير عن ابن عباس قوله {أن طهرا بيتي للطائفين والعاكفين} قال: من الأوثان, وقال مجاهد وسعيد بن جبير {طهرا بيتي للطائفين} أن ذلك من الأوثان والرفث وقول الزور والرجس. قال ابن أبي حاتم, وروي عن عبيد بن عمير وأبي العالية وسعيد بن جبير ومجاهد وعطاء وقتادة {أن طهرا بيتي} أي بلا إِله إِلا الله من الشرك, وأما قوله تعالى: {للطائفين} فالطواف بالبيت معروف وعن سعيد بن جبير أنه قال في قوله تعالى {للطائفين} يعني من أتاه من غرابة {والعاكفين} المقيمين فيه, وهكذا روي عن قتادة والربيع بن أنس, أنهما فسرا العاكفين بأهله المقيمين فيه, كما قال سعيد بن جبير, وقال يحيى القطان عن عبد الملك هو ابن أبي سليمان, عن عطاء في قوله {والعاكفين} قال: من انتابه من الأمصار فأقام عنده وقال لنا ونحن مجاورون أنتم من العاكفين, وقال وكيع عن أبي بكر الهذلي, عن عطاء, عن ابن عباس, قال: إِذا كان جالساً فهو من العاكفين, وقال ابن أبي حاتم: أخبرنا أبي, أخبرنا موسى بن إِسماعيل, أخبرنا حماد بن سلمة, أخبرنا ثابت, قال: قلنا لعبد الله بن عبيد بن عمير: ما أراني إِلا مكلم الأمير أن أمنع الذين ينامون في المسجد الحرام, فإِنهم يجنبون ويحدثون. قال: لا تفعل, فإِن ابن عمر سئل عنهم فقال: هم العاكفون. ورواه عبد بن حميد عن سليمان بن حرب عن حماد بن سلمة به, (قلت) وقد ثبت في الصحيح أن الصحيح أن ابن عمر كان ينام في مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم وهو عزب, وأما قوله تعالى: {والركع السجود} فقال وكيع عن أبي بكر الهذلي, عن عطاء عن ابن عباس: والركع السجود, قال: إِذا كان مصلياً فهو من الركع السجود, وكذا قال عطاء وقتادة. قال ابن جرير رحمه الله: فمعنى الاَية, وأمرنا إِبراهيم وإِسماعيل بتطهير بيتي للطائفين, والتطهير الذي أمرنا به في البيت هو تطهيره من الأصنام وعبادة الأوثان فيه ومن الشرك, ثم أورد سؤالاً فقال: فإِن قيل: فهل كان قبل بناء إِبراهيم عند البيت شيء من ذلك الذي أمر بتطهيره منه وأجاب بوجهين: (أحدهما) أنه أمرهما بتطهيره مما كان يعبد عنده زمان قوم نوح من الأصنام والأوثان, ليكون ذلك سنة لمن بعدهما, إِذ كان الله تعالى قد جعل إِبراهيم إِماماً يقتدى به, كما قال عبد الرحمن بن زيد {أن طهرا بيتي} قال: من الأصنام التي يعبدون, التي كان المشركون يعظمونها (قلت) وهذا الجواب مفرع على أنه كان يعبد عنده أصنام قبل إِبراهيم عليه السلام, ويحتاج إِثبات هذا إِلى دليل عن المعصوم محمد صلى الله عليه وسلم. (الجواب الثاني) أنه أمرهما أن يخلصا في بنائه لله وحده لا شريك له, فيبنياه مطهراً من الشرك والريب, كما قال جل ثناؤه: {أفمن أسس بنيانه على تقوى من الله ورضوان خير أم من أسس بنيانه على شفا جرف هار} قال: فكذلك قوله: {وعهدنا إِلى إِبراهيم وإسماعيل أن طهرا بيتي} أي ابنياه على طهر من الشرك بي والريب, كما قال السدي {أن طهرا بيتي} ابنيا بيتي للطائفين, وملخص هذا الجواب أن الله تعالى أمر إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام أن يبنيا الكعبة على اسمه وحده لا شريك له للطائفين به, والعاكفين عنده, والمصلين إليه من الركع السجود, كما قال تعالى: {وإذ بوأنا لإبراهيم مكان البيت أن لا تشرك بي شيئاً وطهر بيتي للطائفين والقائمين والركع السجود} الاَيات.
وقد اختلف الفقهاء أيهما أفضل الصلاة عند البيت أو الطواف به ؟ فقال مالك رحمه الله, الطواف به لأهل الأمصار أفضل. وقال الجمهور: الصلاة أفضل مطلقاً, وتوجيه كل منهما يذكر في كتاب الأحكام, والمراد من ذلك الرد على المشركين الذين كانوا يشركون بالله عند بيته المؤسس على عبادته وحده لا شريك له, ثم مع ذلك يصدون أهله المؤمنين عنه, كما قال تعالى: {إن الذين كفروا ويصدون عن سبيل الله والمسجد الحرام الذي جعلناه للناس سواء العاكف فيه والباد ومن يرد فيه بإلحاد بظلم نذقه من عذاب أليم} ثم ذكر أن البيت إنما أسس لمن يعبد الله وحده لا شريك له إما بطواف أو صلاة, فذكر في سورة الحج أجزاءها الثلاثة: قيامها وركوعها وسجودها, ولم يذكر العاكفين لأنه تقدم {سواء العاكف فيه والباد} وفي هذه الاَية الكريمة ذكر الطائفين والعاكفين, واكتفى بذكر الركوع والسجود عن القيام, لأنه قد علم أنه لا يكون ركوع ولا سجود إلا بعد قيام, وفي ذلك أيضاً رد على من لا يحجه من أهل الكتابين اليهود والنصارى, لأنهم يعتقدون فضيلة إبراهيم الخليل وإسماعيل , ويعلمون أنه بنى هذا البيت للطواف في الحج والعمرة وغير ذلك وللاعتكاف والصلاة عنده, وهم لا يفعلون شيئاً من ذلك, فكيف يكونون مقتدين بالخليل وهم لا يفعلون ما شرع الله له ؟ وقد حج البيت موسى بن عمران وغيره من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام, كما أخبر بذلك المعصوم الذي لا ينطق عن الهوى {إن هو إلا وحي يوحى}.
وتقدير الكلام إذا {وعهدنا إلى إبراهيم} أي تقدمنا بوحينا إلى إبراهيم وإسماعيل {أن طهرا بيتي للطائفين والعاكفين والركع السجود} أي طهراه من الشرك والريب, وابنياه خالصاً لله معقلاً للطائفين والعاكفين والركع السجود, وتطهير المساجد مأخوذ من هذه الاَية الكريمة, ومن قوله تعالى: {في بيوت أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه يسبح له فيها بالغدو والاَصال} ومن السنة من أحاديث كثيرة من الأمر بتطهيرها وتطييبها وغير ذلك من صيانتها من الأذى والنجاسات وما أشبه ذلك. ولهذا قال عليه السلام «إنما بنيت المساجد لما بنيت له» وقد جمعت في ذلك جزءاً على حدة, ولله الحمد والمنة, وقد اختلف الناس في أول من بنى الكعبة, فقيل: الملائكة قبل آدم, روي هذا عن أبي جعفر الباقر محمد بن علي بن الحسين, ذكره القرطبي وحكى لفظه, وفيه غربة, وقيل: آدم عليه السلام, رواه عبد الرزاق عن ابن جريج, عن عطاء وسعيد بن المسيب وغيرهم: أن آدم بناه من خمسة أجبل: من حراء وطور سيناء وطور زيتا وجبل لبنان والجودي, وهذا غريب أيضاً. وروي عن ابن عباس وكعب الأحبار وقتادة وعن وهب بن منبه: أن أول من بناه شيث عليه السلام, وغالب من يذكر هذه إنما يأخذه من كتب أهل الكتاب, وهي مما لا يصدق ولا يكذب ولا يعتمد عليها بمجردها, وأما إذا صح حديث في ذلك فعلى الرأس والعين.
وقوله تعالى: {وإذ قال إبراهيم رب اجعل هذا بلداً آمناً وارزق أهله من الثمرات من آمن منهم بالله واليوم الاَخر} قال الإمام أبو جعفر بن جرير: أخبرنا ابن بشار قال: أخبرنا عبد الرحمن بن مهدي, أخبرنا سفيان عن أبي الزبير, عن جابر بن عبد الله, قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن إبراهيم حرم بيت الله وأمنه, وإني حرمت المدينة ما بين لابتيها فلا يصاد صيدها ولا يقطع عضاهها» وهكذا رواه النسائي عن محمد بن بشار, عن بندار به, وأخرجه مسلم عن أبي بكر بن أبي شيبة وعمرو بن الناقد كلاهما عن أبي أحمد الزبيري عن سفيان الثوري, وقال ابن جرير أيضاً: أخبرنا أبو كريب وأبو السائب, قالا: حدثنا ابن إدريس, وأخبرنا أبو كريب, أخبرنا عبد الرحيم الرازي, قالا جميعاً: سمعنا أشعث عن نافع, عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن إبراهيم كان عبد الله وخليله, وإني عبد الله ورسوله, وإن إبراهيم حرم مكة, وإني حرمت المدينة ما بين لابتيها: عضاهها وصيدها, لا يحمل فيها سلاح لقتال, ولا يقطع منها شجرة إلا لعلف بعير» وهذه الطريق غريبة ليست في شيء من الكتب الستة, وأصل الحديث في صحيح مسلم من وجه آخر عن أبي هريرة رضي الله عنه, قال: كان الناس إذا رأوا أول الثمر, جاؤوا به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم, فإذا أخذه رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «اللهم بارك لنا في ثمرنا, وبارك لنا في مدينتنا, وبارك لنا في صاعنا, وبارك لنا في مدنا, اللهم إن إبراهيم عبدك وخليلك ونبيك, وإني عبدك ونبيك, وإنه دعاك لمكة, وإني أدعوك للمدينة بمثل ما دعاك لمكة, ومثله معه» ثم يدعو أصغر وليد له فيعطيه ذلك الثمر وفي لفظ «بركة مع بركة» ثم يعطيه أصغر من يحضره من الولدان ـ لفظ مسلم, ثم قال ابن جرير: حدثنا أبو كريب, حدثنا قتيبة بن سعيد, أخبرنا بكر بن مضر عن ابن الهاد, عن أبي بكر بن محمد, عن عبد الله بن عمرو بن عثمان, عن رافع بن خديج, قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن إبراهيم حرم مكة, وإني أحرم ما بين لابتيها» إنفرد بإخراجه مسلم, فرواه عن قتيبة عن بكر بن مضر به, ولفظه كلفظه سواء, وفي الصحيحين عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي طلحة: «التمس لي غلاماً من غلمانكم يخدمني» فخرج بي أبو طلحة يردفني وراءه, فكنت أخدم رسول الله صلى الله عليه وسلم كلما نزل, وقال في الحديث: ثم أقبل حتى إذا بدا له أحد قال: «هذا جبل يحبنا ونحبه» فلما أشرف على المدينة قال: «اللهم إني أحرم ما بين جبليها مثلما حرم به إبراهيم مكة, اللهم بارك لهم في مدهم وصاعهم» وفي لفظ لهما «اللهم بارك لهم في مكيالهم, وبارك لهم في صاعهم, وبارك لهم في مدهم» زاد البخاري يعني أهل المدينة ولهما أيضاً عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم, قال: «اللهم اجعل بالمدينة ضعفي ما جعلته بمكة من البركة» وعن عبد الله بن زيد بن عاصم رضي الله عنه, عن النبي صلى الله عليه وسلم: «إن إبراهيم حرم مكة ودعا لها, وحرمت المدينة كما حرم إبراهيم مكة, ودعوت لها في مدها وصاعها مثل ما دعا إبراهيم لمكة» رواه البخاري وهذا لفظه, ولمسلم ولفظه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم, قال: «إن إبراهيم حرم مكة ودعا لأهلها, وإني حرمت المدينة كما حرم إبراهيم مكة, وإني دعوت لها في صاعها ومدها بمثل ما دعا به إبراهيم لأهل مكة» وعن أبي سعيد رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم, قال: «اللهم إن إبراهيم حرم مكة فجعلها حراماً, وإني حرمت المدينة حراماً ما بين مأزميها, أن لا يهراق فيها دم ولا يحمل فيها سلاح لقتال, ولا يخبط فيها شجرة إلا لعلف, اللهم بارك لنا في مدينتنا, اللهم بارك لنا في صاعنا, اللهم بارك لنا في مدنا, اللهم اجعل مع البركة بركتين» الحديث, رواه مسلم, والأحاديث في تحريم المدينة كثيرة, وإنما أوردنا منها ما هو متعلق بتحريم إبراهيم عليه السلام لمكة, لما في ذلك من مطابقة الاَية الكريمة. وتمسك بها من ذهب إلى أن تحريم مكة إنما كان على لسان إبراهيم الخليل, وقيل: إنها محرمة منذ خلقت مع الأرض, وهذا أظهر وأقوى, والله يعلم.
وقد وردت أحاديث أخر تدل على أن الله تعالى حرم مكة قبل خلق السموات والأرض كما جاء في الصحيحين عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما, قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة «إن هذا البلد حرمه الله يوم خلق السموات والأرض, فهو حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة, وإنه لم يحلّ القتال فيه لأحد قبلي, ولم يحلّ لي إلا ساعة من نهار فهو حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة لا يعضد شوكه, ولا ينفر صيده, ولا يلتقط لقطته إلا من عرّفها ولا يختلى خلاها» فقال العباس: يا رسول الله: إلا الإذخر, فإنه لقينهم ولبيوتهم, فقال: «إلا الإذخر» وهذا لفظ مسلم, ولهما عن أبي هريرة نحو من ذلك, ثم قال البخاري بعد ذلك: وقال أبان بن صالح, عن الحسن بن مسلم, عن صفية بنت شيبة: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم مثله, وهذا الذي علقه البخاري رواه الإمام أبو عبد الله بن ماجه عن محمد بن عبد الله بن نمير, عن يونس بن بكير, عن محمد بن إسحاق, عن أبان بن صالح, عن الحسن بن مسلم بن يناق, عن صفية بنت شيبة, قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب عام الفتح, فقال: «يا أيها الناس, إن الله حرم مكة يوم خلق السموات والأرض, فهي حرام إلى يوم القيامة لا يعضد شجرها, ولا ينفر صيدها, ولا يأخذ لقطتها إلا منشد» فقال العباس: إلا الإذخر, فإنه للبيوت والقبور, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إلا الإذخر» وعن أبي شريح العدوي أنه قال لعمرو بن سعيد وهو يبعث البعوث إلى مكة: إئذن لي أيها الأمير أن أحادثك قولاً قام به رسول الله صلى الله عليه وسلم الغد من يوم الفتح, سمعته أذناي, ووعاه قلبي, وأبصرته عيناي حين تكلم به ـ إنه حمد الله وأثنى عليه ثم قال: «إن مكة حرمها الله ولم يحرمها الناس, فلا يحل لامرىء يؤمن بالله واليوم الاَخر أن يسفك بها دماً, ولا يعضد بها شجرة, فإن أحد ترخص بقتال رسول الله صلى الله عليه وسلم فقولوا: إن الله أذن لرسوله ولم يأذن لكم. وإنما أذن لي فيها ساعة من نهار, وقد عادت حرمتها اليوم كحرمتها بالأمس, فليبلغ الشاهد الغائب» فقيل لأبي شريح: ما قال لك عمرو ؟ قال: أنا أعلم بذلك منك يا أبا شريح, إن الحرم لا يعيذ عاصياً ولا فاراً بدمٍ ولا فاراً بخربة, رواه البخاري ومسلم وهذا لفظه.
فإذا علم هذا فلا منافاة بين هذه الأحاديث الدالة على أن الله حرم مكة يوم خلق السموات والأرض, وبين الأحاديث الدالة على أن إبراهيم عليه السلام حرمها, لأن إبراهيم بلغ عن الله حكمه فيها وتحريمه إياها وأنها لم تزل بلداً حراماً عند الله قبل بناء إبراهيم عليه السلام لها, كما أنه قد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم مكتوباً عند الله خاتم النبيين, وإن آدم لمنجدل في طينته, ومع هذا قال إبراهيم عليه السلام {ربنا وابعث فيهم رسولاً منهم} الاَية, وقد أجاب الله دعاءه بما سبق في علمه وقدره. ولهذا جاء في الحديث أنهم قالوا: يا رسول الله, أخبرنا عن بدء أمرك. فقال: «دعوة أبي إبراهيم عليه السلام, وبشرى عيسى بن مريم, ورأت أمي كأنه خرج منها نور أضاءت له قصور الشام» أي أخبرنا عن بدء ظهور أمرك, كما سيأتي قريباً إن شاء الله.
وأما مسألة تفضيل مكة على المدينة كما هو قول الجمهور, أو المدينة على مكة كما هو مذهب مالك وأتباعه, فتذكر في موضع آخر بأدلتها إن شاء الله وبه الثقة. وقوله تعالى إخباراً عن الخليل أنه قال: {رب اجعل هذا بلداً آمناً} أي من الخوف أي لا يرعب أهله, وقد فعل الله ذلك شرعاً وقدراً, كقوله تعالى: {ومن دخله كان آمناً» وقوله: {أو لم يروا أنا جعلنا حرماً آمناً ويتخطف الناس من حولهم} إلى غير ذلك من الاَيات, وقد تقدمت الأحاديث في تحريم القتال فيه. وفي صحيح مسلم عن جابر: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «لا يحل لأحد أن يحمل بمكة السلاح» وقال في هذه السورة {رب اجعل هذا بلداً آمناً} أي اجعل هذه البقعة بلداً آمناً} وناسب هذا لأنه قبل بناء الكعبة. وقال تعالى في سورة إبراهيم: {وإذ قال إبراهيم رب اجعل هذا البلد آمناً} وناسب هذا هناك لأنه, والله أعلم, كأنه وقع دعاء مرة ثانية بعد بناء البيت واستقرار أهله به, وبعد مولد إسحاق الذي هو أصغر سناً من إسماعيل بثلاث عشرة سنة, ولهذا قال في آخر الدعاء {الحمد لله الذي وهب لي على الكبر إسماعيل وإسحاق, إن ربي لسميع الدعاء}.
وقوله تعالى: {وارزق أهله من الثمرات من آمن منهم بالله واليوم الاَخر قال ومن كفر فأمتعه قليلاً ثم أضطره إلى عذاب النار وبئس المصير} قال أبو جعفر الرازي عن الربيع بن أنس عن أبي العالية عن أبي بن كعب {قال ومن كفر فأمتعه قليلاً ثم أضطره إلى عذاب النار وبئس المصير} قال: هو قول الله تعالى, وهذا قول مجاهد وعكرمة, وهو الذي صوبه ابن جرير رحمه الله. قال: وقرأ آخرون: {قال ومن كفر فأمتعه قليلاً ثم أضطره إلى عذاب النار وبئس المصير} فجعلوا ذلك من تمام دعاء إبراهيم, كما رواه أبو جعفر عن الربيع عن أبي العالية قال: كان ابن عباس يقول ذلك قول إبراهيم, يسأل ربه أن من كفر فأمتعه قليلاً, وقال أبو جعفر عن ليث بن أبي سليم عن مجاهد {ومن كفر فأمتعه قليلاً} يقول, ومن كفر فأرزقه قليلاً أيضاً {ثم أضطره إلى عذاب النار وبئس المصير} قال محمد بن إسحاق: لما عنّ لإبراهيم الدعوة على من أبى الله أن يجعل له الولاية انقطاعاً إلى الله ومحبته, وفراقاً لمن خالف أمره وإن كانوا من ذريته, حين عرف أنه كائن منهم ظالم لا يناله عهده بخبر اللهله بذلك, قال الله: ومن كفر فإني أرزق البر والفاجر وأمتعه قليلاً, وقال حاتم بن إسماعيل عن حميد الخراط, عن عمار الدهني, عن سعيد بن جبير, عن ابن عباس في قوله تعالى: {رب اجعل هذا بلداً آمناً وارزق أهله من الثمرات من آمن منهم بالله واليوم الاَخر} قال ابن عباس: كان إبراهيم يحجرها على المؤمنين دون الناس فأنزل الله: ومن كفر أيضاً أرزقهم كما أرزق المؤمنين, أأخلق خلقاً لا أرزقهم ؟ أمتعهم قليلاً ثم أضطرهم إلى عذاب النار وبئس المصير, ثم قرأ ابن عباس {كلا نمد هؤلاء وهؤلاء من عطاء ربك وما كان عطاء ربك محظوراً} رواه ابن مردويه, وروي عن عكرمة ومجاهد نحو ذلك أيضاً, وهذا كقوله تعالى: {إن الذين يفترون على الله الكذب لا يفلحون متاع في الدنيا ثم إلينا مرجعهم ثم نذيقهم العذاب الشديد بما كانوا يكفرون * وقوله تعالى: {ومن كفر فلا يحزنك كفره إلينا مرجعهم فننبئهم بما عملوا إن الله عليم بذات الصدور * نمتعهم قليلاً ثم نضطرهم إلى عذاب غليظ} وقوله: {ولولا أن يكون الناس أمة واحدة لجعلنا لمن يكفر بالرحمن لبيوتهم سقفاً من فضة ومعارج عليها يظهرون * ولبيوتهم أبواباً وسرراً عليها يتكؤون * وزخرفاً وإن كل ذلك لمّا متاع الحياة الدنيا والاَخرة عند ربك للمتقين} وقوله: {ثم أضطره إلى عذاب النار وبئس المصير} أي ثم ألجئه بعد متاعه في الدنيا وبسطنا عليه من ظلها إلى عذاب النار وبئس المصير, ومعناه أن الله تعالى ينظرهم ويمهلهم ثم يأخذهم أخذ عزيز مقتدر كقوله تعالى: {وكأين من قرية أمليت لها وهي ظالمة ثم أخذتها وإلي المصير} وفي الصحيحين «لاأحد أصبر على أذى سمعه من الله إنهم يجعلون له ولداً وهو يرزقهم ويعافيهم» وفي الصحيح أيضاً «إن الله ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته» ثم قرأ قوله تعالى: {وكذلك أخذ ربك إذا أخذ القرى وهي ظالمة إن أخذه أليم شديد} وقرأ بعضهم {قال ومن كفر فأمتعه قليلاً} الاَية, جعله من تمام دعاء إبراهيم وهي قراءة شاذة مخالفة للقراء السبعة, وتركيب السياق يأبى معناها, والله أعلم, فإن الضمير في قال: راجع إلى الله تعالى في قراءة الجمهور, والسياق يقتضيه, وعلى هذه القراءة الشاذة يكون الضمير في قال عائداً على إبراهيم, وهذا خلاف نظم الكلام, والله سبحانه هو العلام.
وأما قوله تعالى: {وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم * ربنا واجعلنا مسلمين لك ومن ذريتنا أمة مسلمة لك وأرنا مناسكنا وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم} فالقواعد جمع قاعدة وهي السارية والأساس, يقول تعالى: واذكر يا محمد لقومك بناء إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام البيت ورفعهما القواعد منه, وهما يقولان {ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم} وحكى القرطبي وغيره عن أبي وابن مسعود أنهما كانا يقرآن {وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل ويقولان ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم}, (قلت) ويدل على هذا قولهما بعده {ربنا واجعلنا مسلمين لك ومن ذريتنا أمة مسلمة لك} الاَية, فهما في عمل صالح, وهما يسألان الله تعالى أن يتقبل منهما, كما روى ابن أبي حاتم من حديث محمد بن يزيد بن خنيس المكي عن وهيب بن الورد أنه قرأ {وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل ربنا تقبل منا} ثم يبكي ويقول: يا خليل الرحمن ترفع قوائم بيت الرحمن وأنت مشفق أن لا يتقبل منك. وهذا كما حكى الله تعالى عن حال المؤمنين الخلص في قوله {والذين يؤتون ما آتوا} أي يعطون ما أعطوا من الصدقات والنفقات والقربات {وقلوبهم وجلة} أي خائفة أن ألاّ يتقبل منهم, كما جاء به الحديث الصحيح عن عائشة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم كما سيأتي في موضعه. وقال بعض المفسرين: الذي كان يرفع القواعد هو إبراهيم والداعي إسماعيل, والصحيح أنهما كانا يرفعان ويقولان كما سيأتي بيانه. وقد روى البخاري ههنا حديثا سنورده ثم نتبعه بآثار متعلقة بذلك, قال البخاري رحمه الله حدثنا عبد الله بن محمد, أخبرنا عبد الرزاق أخبرنا معمر عن أيوب السختياني وكثير بن كثير بن عبد المطلب بن أبي وداعة ـ يزيد أحدهما على الاَخر ـ عن سعيد بن جبير, عن ابن عباس رضي الله عنهما, قال: أول ما اتخذ النساء المنطق من قبل أم إسماعيل اتخذت منطقاً ليعفّى أثرها على سارة, ثم جاء بها إبراهيم وبابنها إسماعيل وهي ترضعه, حتى وضعها عند البيت عند دوحة فوق زمزم في أعلى المسجد وليس بمكة يومئذ أحد, وليس بها ماء, فوضعهما هنالك ووضع عندهما جراباً فيه تمر, وسقاء فيه ماء, ثم قفا إبراهيم منطلقاً فتبعته أم إسماعيل, فقالت: ياإبراهيم أين تذهب وتتركنا بهذا الوادي ليس فيه أنيس ؟ ولا شيء ؟ فقالت له ذلك مراراً, وجعل لا يلتفت إليها, فقالت: آلله أمرك بذا ؟ قال: نعم: قالت: إذاً لا يضيعنا. ثم رجعت. فانطلق إبراهيم حتى إذا كان عند الثنية حيث لا يرونه استقبل بوجهه البيت, ثم دعا بهذه الدعوات ورفع يديه, فقال {ربنا إني أسكنت من ذريتي بواد غير ذي زرع عند بيتك المحرم} حتى بلغ {يشكرون} وجعلت أم إسماعيل ترضع إسماعيل وتشرب من ذلك الماء, حتى إذا نفذ ما في السقاء عطشت وعطش ابنها وجعلت تنظر إليه يتلوى ـ أو قال: يتلبط ـ فانطلقت كراهية أن تنظر إليه, فوجدت الصفا أقرب جبل في الأرض يليها, فقامت عليه ثم استقبلت الوادي تنظر هل ترى أحداً, فلم تر أحداً, فهبطت من الصفا حتى إذا بلغت الوادي: رفعت طرف درعها ثم سعت سعي الإنسان المجهود حتى جاوزت الوادي, ثم أتت المروة فقامت عليها فنظرت هل ترى أحداً, فلم تر أحدا, ففعلت ذلك سبع مرات, قال ابن عباس: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «فلذلك سعى الناس بينهما» فلما أشرفت على المروة سمعت صوتاً فقالت «صه» ـ تريد نفسها ـ ثم تسمعت فسمعت أيضاً, فقالت: قد أسمعت إن كان عندك غواث فإذا هي بالملك عند موضع زمزم فبحث بعقبه, أو قال: بجناحه, حتى ظهر الماء, فجعلت تحوطه وتقول بيدها هكذا, وجعلت تغرف من الماء في سقائها وهو يفور بعد ما تغرف, قال ابن عباس: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «يرحم الله أم إسماعيل لو تركت زمزم ـ أو قال: لو لم تغرف من الماء ـ لكانت زمزم عيناً معيناً» قال: فشربت وأرضعت ولدها, فقال لها الملك: لا تخافي الضيعة, فإن ههنا بيتاً لله يبنيه هذا الغلام وأبوه وإن الله لا يضيع أهله, وكان البيت مرتفعاً من الأرض كالرابية تأتيه السيول فتأخذ عن يمينه وشماله, فكانت كذلك حتى مرت بهم رفقة من جُرهَم أو أهل بيت من جرهم مقبلين من طريق كداء, فنزلوا في أسفل مكة, فرأوا طائراً عائفاً, فقالوا: إن هذا الطائر ليدور على ماء, لعهدنا بهذا الوادي وما فيه ماء, فأرسلوا جرياً أو جريين, فإذا هم بالماء فرجعوا فأخبرهم بالماء, فأقبلوا, قال: وأم إسماعيل عند الماء, فقالوا أتأذنين لنا أن ننزل عندك ؟ قالت: نعم, ولكن لا حق لكم في الماء عندنا, قالوا: نعم, قال ابن عباس: قال النبي صلى الله عليه وسلم:«فألفى ذلك أم إسماعيل وهي تحب الأنس» فنزلوا وأرسلوا إلى أهليهم فنزلوا معهم, حتى إذا كان بها أهل أبيات منهم, وشب الغلام وتعلم العربية منهم, وأنفسهم وأعجبهم حين شب, فلما أدرك زوجوه امرأة منهم, وماتت أم إسماعيل فجاء إبراهيم بعدما تزوج إسماعيل ليطالع تركته فلم يجد إسماعيل, فسأل امرأته عنه فقالت: خرج يبتغي لنا, ثم سألها عن عيشهم وهيئتهم, فقالت: نحن بشر, نحن في ضيق وشدة, فشكت إليه, قال: فإذا جاء زوجك فاقرئي عليه السلام, وقولي له يغير عتبة بابه, فلما جاء إسماعيل, كأنه أنس شيئاً, فقال: هل جاءكم من أحد ؟ قالت: نعم, جاءنا شيخ كذا وكذا, فسألنا عنك فأخبرته, وسألني كيف عيشنا ؟ فأخبرته أننا في جهد وشدة, قال: فهل أوصاك بشيء ؟ قالت: نعم, أمرني أن أقرأ عليك السلام, ويقول غير عتبة بابك, قال: ذاك أبي وقد أمرني أن أفارقك, فالحقي بأهلك, وطلقها وتزوج منهم بأخرى, فلبث عنهم إبراهيم ما شاء الله ثم أتاهم بعد, فلم يجده, فدخل على امرأته فسألها عنه, فقالت: خرج يبتغي لنا, قال: كيف أنتم ؟ وسألها عن عيشهم وهيئتهم, فقالت: نحن بخير وسعة, وأثنت على الله عز وجل, قال: ما طعامكم ؟ قالت: اللحم, قال: فما شرابكم ؟ قالت: الماء. قال: اللهم بارك لهم في اللحم والماء, قال النبي صلى الله عليه وسلم: «ولم يكن لهم يومئذ حب ولو كان لهم لدعا لهم فيه» قال: فهما لا يخلو عليهما أحد بغير مكة إلا لم يوافقاه, قال: فإذا جاء زوجك فاقرئي عليه السلام ومريه يثبت عتبة بابه, فلما جاء إسماعيل قال: هل أتاكم من أحد ؟ قالت: نعم, أتانا شيخ حسن الهيئة, وأثنت عليه, فسألني عنك فأخبرته, فسألني كيف عيشنا ؟ فأخبرته أنا بخير, قال: فأوصاك بشيء ؟ قالت: نعم, وهو يقرأ عليك السلام, ويأمرك أن تثبت عتبة بابك, قال: ذاك أبي وأنت العتبة, أمرني أن أمسكك, ثم لبث عنهم ما شاء الله, ثم جاء بعد ذلك وإسماعيل يبري نبلاً له تحت دوحة قريباً من زمزم, فلما رآه قام إليه, وصنعا كما يصنع الوالد بالولد والولد بالوالد, ثم قال: ياإسماعيل, إن الله أمرني بأمر, قال: فاصنع ما أمرك ربك, قال: وتعينني ؟ قال: وأعينك, قال: فإن الله أمرني أن أبني ههنا بيتاً, وأشار إلى أكمة مرتفعة على ما حولها, قال: فعند ذلك رفعا القواعد من البيت, فجعل إسماعيل يأتي بالحجارة وإبراهيم يبني, حتى إذا ارتفع البناء جاء بهذا الحجر فوضعه له, فقام عليه, وهو يبني وإسماعيل يناوله الحجارة, وهما يقولان {ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم}, قال: فجعلا يبنيان حتى يدورا حول البيت وهما يقولان {ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم}, ورواه عبد بن حميد عن عبد الرزاق به مطولاً, ورواه ابن أبي حاتم عن أبي عبد الله بن حماد الطبراني, وابن جرير عن أحمد بن ثابت الرازي, كلاهما عن عبد الرزاق به مختصراً.
وقال أبو بكر بن مردويه: أخبرنا إسماعيل بن علي, أخبرنا بشر بن موسى, أخبرنا أحمد بن محمد الأزرقي, أخبرنا مسلم بن خالد الزنجي عن عبد الملك بن جريج, عن كثير بن كثير, قال: كنت أنا وعثمان بن أبي سليمان وعبد الله بن عبد الرحمن بن أبي حسين في ناس مع سعيد بن جبير في أعلى المسجد ليلاً, فقال سعيد بن جبير: سلوني قبل أن لا تروني, فسألوه عن المقام, فأنشأ يحدثهم عن ابن عباس, فذكر الحديث بطوله.