** قَدْ نَرَىَ تَقَلّبَ وَجْهِكَ فِي السّمَآءِ فَلَنُوَلّيَنّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلّواْ وُجُوِهَكُمْ شَطْرَهُ وَإِنّ الّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنّهُ الْحَقّ مِن رّبّهِمْ وَمَا اللّهُ بِغَافِلٍ عَمّا يَعْمَلُونَ
قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: كان أول ما نسخ من القرآن القبلة, وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم, لما هاجر إلى المدينة وكان أكثر أهلها اليهود فأمره الله أن يستقبل بيت المقدس, ففرحت اليهود فاستقبلها رسول الله صلى الله عليه وسلم بضعة عشر شهراً, وكان يحب قبلة إبراهيم فكان يدعو إلى الله وينظر إلى السماء فأنزل الله {قد نرى تقلب وجهك في السماء} إلى قوله: {فولوا وجوهكم شطره} فارتابت من ذلك اليهود وقالوا: {ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها قل لله المشرق والمغرب} وقال: {فأينما تولوا فثم وجه الله} وقال الله تعالى: {وما جعلنا القبلة التي كنت عليها إلا لنعلم من يتبع الرسول ممن ينقلب على عقبيه} وروى ابن مردويه من حديث القاسم العمري عن عمه عبيد الله بن عمر عن داود بن الحصين عن عكرمة عن ابن عباس قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا سلم من صلاته إلى بيت المقدس رفع رأسه إلى السماء, فأنزل الله {فلنولينك قبلة ترضاها فول وجهك شطر المسجد الحرام} إلى الكعبة إلى الميزاب يؤم به جبرائيل عليه السلام. وروى الحاكم في مستدركه من حديث شعبة عن يعلى بن عطاء عن يحيى بن قمطة قال: رأيت عبد الله بن عمرو جالساً في المسجد الحرام بإزاء الميزاب فتلى هذه الاَية, {فلنولينك قبلة ترضاها} قال نحو ميزاب الكعبة. ثم قال صحيح الإسناد ولم يخرجاه. ورواه ابن أبي حاتم عن الحسن بن عرفة عن هشام عن يعلى بن عطاء به. وهكذا قال غيره وهو أحد قولي الشافعي رضي الله عنه, إن الغرض إصابة عين الكعبة, والقول الاَخر وعليه الأكثرون: أن المراد المواجهة, كما رواه الحاكم من حديث محمد بن إسحاق عن عمير بن زياد الكندي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه {فول وجهك شطر المسجد الحرام} قال شطره قبله, ثم قال: صحيح الإسناد, ولم يخرجاه, وهذا قول أبي العالية ومجاهد وعكرمة وسعيد بن جبير وقتادة والربيع بن أنس وغيرهم. وكما تقدم في الحديث الاَخر «ما بين المشرق والمغرب قبلة» وقال القرطبي: روى ابن جريج عن عطاء عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «البيت قبلة لأهل المسجد والمسجد قبلة لأهل الحرم والحرم قبلة لأهل الأرض في مشارقها ومغاربها من أمتي» وقال أبو نعيم الفضل بن دكين: حدثنا زهير عن أبي إسحاق عن البراء أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى قبل بيت المقدس ستة عشر شهراً, أو سبعة عشر شهراً, وكان يعجبه قبلته قبل البيت ؟ وأنه صلى صلاة العصر وصلى معه قوم, فخرج رجل ممن كان يصلي معه فمر على أهل المسجد وهم راكعون فقال: أشهد بالله لقد صليت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل مكة فداروا كما هم قبل البيت.
وقال عبد الرزاق: أخبرنا إسرائيل عن أبي إسحاق عن البراء قال: لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة صلى نحو بيت المقدس ستة عشر شهراً أو سبعة عشر شهراً, وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحب أن يحول نحو الكعبة, فنزلت {قد نرى تقلب وجهك في السماء} فصرف إلى الكعبة وروى النسائي عن أبي سعيد بن المعلى قال: كنا نغدو إلى المسجد على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فنصلي فيه فمررنا يوماً ورسول الله صلى الله عليه وسلم قاعد على المنبر, فقلت: لقد حدث أمر فجلست, فقرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الاَية: {قد نرى تقلب وجهك في السماء فلنولينك قبلة ترضاها} حتى فرغ من الاَية, فقلت لصاحبي تعال نركع ركعتبن قبل أن ينزل رسول الله صلى الله عليه وسلم, فنكون أول من صلى, فتوارينا فصليناها. ثم نزل النبي صلى الله عليه وسلم وصلى للناس الظهر يومئذ, وكذا روى ابن مردويه عن ابن عمر: أن أول صلاة صلاها رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الكعبة صلاة الظهر وإنها الصلاة الوسطى, والمشهور أن أول صلاة صلاها إلى الكعبة صلاة العصر ولهذا تأخر الخبر عن أهل قباء إلى صلاة الفجر, وقال الحافظ أبو بكر بن مردويه: حدثنا سليمان بن أحمد حدثنا الحسين بن إسحاق التستري, حدثنا رجاء بن محمد السقطي حدثنا إسحاق بن إدريس حدثنا إبراهيم بن جعفر, حدثني أبي عن جدته أم أبيه نويلة بنت مسلم قالت: صلينا الظهر أو العصر في مسجد بني حارثة فاستقبلنا مسجد إيلياء فصلينا ركعتين, ثم جاء من يحدثنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد استقبل البيت الحرام فتحول النساء مكان الرجال والرجال مكان النساء, فصلينا السجدتين الباقيتيتن ونحن مستقبلون البيت الحرام, فحدثني رجل من بني حارثة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «أولئك رجال يؤمنون بالغيب» وقال ابن مردويه أيضاً, حدثنا محمد بن علي بن دحيم حدثنا أحمد بن حازم حدثنا مالك بن إسماعيل النهدي حدثنا قيس عن زياد بن علامة عن عمارة بن أوس قال: بينما نحن في الصلاة نحو بيت المقدس ونحن ركوع إذ نادى مناد بالباب: إن القبلة قد حولت إلى الكعبة, قال فأشهد على إمامنا أنه انحرف فتحول هو والرجال والصبيان وهم ركوع نحو الكعبة, وقوله: {وحيث ما كنتم فولوا وجوهكم شطره} أمر تعالى باستقبال الكعبة من جميع جهات الأرض شرقاً وغرباً وشمالاً وجنوباً, ولا يستثنى من هذا شيء سوى النافلة في حال السفر فإنه يصليها حيثما توجه قالبه وقلبه نحو الكعبة, وكذا في حال المسايفة في القتال يصلي على كل حال. وكذا من جهل جهة القبلة يصلي باجتهاده وإن كان مخطئاً في نفس الأمر, لأن الله تعالى لا يكلف نفساً إلا وسعها.
(مسألة) وقد استدل المالكية بهذه الاَية على أن المصلي ينظر أمامه لا إلى موضع سجوده كما ذهب إليه الشافعي وأحمد وأبو حنيفة, قال المالكية بقوله: {فول وجهك شطر المسجد الحرام} فلو نظر إلى موضع سجوده لاحتاج أن يتكلف ذلك بنوع من الانحناء وهو ينافي كمال القيام, وقال بعضهم: ينظر المصلي في قيامه إلى صدره. وقال شريك القاضي: ينظر في حال قيامه إلى موضع سجوده كما قال جمهور الجماعة, لأنه أبلغ في الخضوع وآكد في الخشوع وقد ورد به الحديث, وأما في حال ركوعه فإلى موضع قدميه, وفي حال سجوده إلى موضع أنفه وفي حال قعوده إلى حجره.
وقوله: {وإن الذين أوتوا الكتاب ليعلمون أنه الحق من ربهم} أي واليهود الذين أنكروا استقبالكم وانصرافكم عن بيت المقدس, يعلمون أن الله تعالى سيوجهك إليها بما في كتبهم عن أنبيائهم من النعت والصفة لرسول الله صلى الله عليه وسلم وأمته, وما خصه الله تعالى به وشرفه من الشريعة الكاملة العظيمة, ولكن أهل الكتاب يتكاتمون ذلك بينهم حسداً وكفراً وعناداً ولهذا تهددهم تعالى بقوله: {وما الله بغافل عما يعملون}.
** وَلَئِنْ أَتَيْتَ الّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ بِكُلّ آيَةٍ مّا تَبِعُواْ قِبْلَتَكَ وَمَآ أَنتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ وَمَا بَعْضُهُم بِتَابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ وَلَئِنِ اتّبَعْتَ أَهْوَاءَهُم مّن بَعْدِ مَا جَآءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنّكَ إِذَاً لّمِنَ الظّالِمِينَ
يخبر تعالى عن كفر اليهود وعنادهم ومخالفتهم ما يعرفونه من شأن رسول الله صلى الله عليه وسلم, وأنه لو أقام عليهم كل دليل على صحة ما جاءهم به لما اتبعوه وتركوا أهواءهم كما قال تعالى: {إن الذين حقت عليهم كلمة ربك لا يؤمنون * ولو جاءتهم كل آية حتى يروا العذاب الأليم} ولهذا قال ههنا {ولئن أتيت الذين أوتوا الكتاب بكل أية ما تبعوا قبلتك} وقوله {وما أنت بتابع قبلتهم} إخبار عن شدة متابعة الرسول صلى الله عليه وسلم لما أمره الله تعالى به وأنه كما هم مستمسكون بآرائهم وأهوائهم, فهو أيضاً مستمسك بأمر الله وطاعته واتباع مرضاته, وأنه لا يتبع أهواءهم في جميع أحواله ولا كونه متوجهاً إلى بيت المقدس لكونها قبلة اليهود, وإنما ذلك عن أمر الله تعالى, ثم حذر تعالى عن مخالفة الحق الذي يعلمه العالم إلى الهوى, فإن العالم الحجة عليه أقوم من غيره, ولهذا قال مخاطباً للرسول والمراد به الأمة {ولئن اتبعت أهواءهم من بعد ما جاءك من العلم إنك إذاً لمن الظالمين}.
** الّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنّ فَرِيقاً مّنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ * الْحَقّ مِن رّبّكَ فَلاَ تَكُونَنّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ
يخبر تعالى أن علماء أهل الكتاب, يعرفون صحة ما جاءهم به الرسول صلى الله عليه وسلم كما يعرف أحدهم ولده, والعرب كانت تضرب المثل في صحة الشيء بهذا, كما جاء في الحديث. أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لرجل معه صغير «ابنك هذا» ؟ قال: نعم يا رسول الله أشهد به, قال «أما أنه لا يخفى عليك ولا تخفى» عليه «قال القرطبي: ويروى عن عمر أنه قال لعبد الله بن سلام: أتعرف محمداً كما تعرف ولدك ؟ قال, نعم وأكثر, نزل الأمين من السماء على الأمين في الأرض بنعته فعرفته, وإني لا أدري ما كان من أمه (قلت) وقد يكون المراد {يعرفونه كما يعرفون أبناءهم} من بين أبناء الناس كلهم, لا يشك أحد ولا يمتري في معرفة ابنه إذا رآه من أبناء الناس كلهم. ثم أخبر تعالى أنهم مع هذا التحقق والإتقان العلمي {ليكتمون الحق} أي ليكتمون الناس ما في كتبهم من صفة النبي صلى الله عليه وسلم {وهم يعلمون}, ثم ثبت تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم والمؤمنين وأخبرهم بأن ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم هو الحق الذي لا مرية فيه ولا شك, فقال: {الحق من ربك فلا تكونن من الممترين}
** وَلِكُلّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلّيهَا فَاسْتَبِقُواْ الْخَيْرَاتِ أَيْنَ مَا تَكُونُواْ يَأْتِ بِكُمُ اللّهُ جَمِيعاً إِنّ اللّهَ عَلَىَ كُلّ شَيْءٍ قَدِيرٌ
قال العوفي عن ابن عباس: ولكل وجهة هو موليها يعني بذلك أهل الأديان, يقول لكل قبيلة قبلة يرضونها ووجهة الله حيث توجه المؤمنون. وقال أبو العالية: لليهودي وجهة هو موليها, وللنصراني وجهة هو موليها, وهداكم أنتم أيتها الأمة إلى القبلة التي هي القبلة. وروي عن مجاهد وعطاء والضحاك والربيع بن أنس والسدي نحو هذا, وقال مجاهد في الرواية الأخرى, والحسن أمر كل قوم أن يصلوا إلى الكعبة, وقرأ ابن عباس وأبو جعفر الباقر وابن عامر {ولكل وجهة هو مولاها}, وهذه الاَية شبيهة بقوله تعالى: {لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجاً ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة ولكن ليبلوكم فيما آتاكم فاستبقوا الخيرات إلى الله مرجعكم جميعاً} وقال ههنا {أينما تكونوا يأت بكم الله جميعاً إن الله على كل شيء قدير} أي هو قادر على جمعكم من الأرض وإن تفرقت أجسادكم وأبدانكم.
** وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِنّهُ لَلْحَقّ مِن رّبّكَ وَمَا اللّهُ بِغَافِلٍ عَمّا تَعْمَلُونَ * وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلّواْ وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ لِئَلاّ يَكُونَ لِلنّاسِ عَلَيْكُمْ حُجّةٌ إِلاّ الّذِينَ ظَلَمُواْ مِنْهُمْ فَلاَ تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي وَلاُتِمّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَلَعَلّكُمْ تَهْتَدُونَ
هذا أمر ثالث من الله تعالى باستقبال المسجد الحرام من جيمع أقطار الأرض, قد اختلفوا في حكمة هذا التكرار ثلاث مرات, فقيل, تأكيد لأنه أول ناسخ وقع في الإسلام على ما نص فيه ابن عباس وغيره, وقيل: بل هو منزل على أحوال, فالأمر الأول لمن هو مشاهد الكعبة, والثاني لمن هو في مكة غائباً عنها, والثالث لمن هو في بقية البلدان, هكذا وجهه فخر الدين الرازي. وقال القرطبي: الأول لمن هو بمكة, والثاني لمن هو في بقية الأمصار, والثالث لمن خرج في الأسفار, ورجح هذا الجواب القرطبي, وقيل: إنما ذكر ذلك لتعلقه بما قبله أو بعده من السياق, فقال: أولا {قد نرى تقلب وجهك في السماء فلنولينك قبلة ترضاها} إلى قوله {وإن الذين أوتوا الكتاب ليعلمون أنه الحق من ربهم وما الله بغافل عما يعملون} فذكر في هذا المقام إجابته إلى طلبته وأمره بالقبلة التي كان كان يود التوجه إليها ويرضاها, وقال في الأمر الثاني, {ومن حيث خرجت فول وجهك شطر المسجد الحرام وإنه للحق من ربك وما الله بغافل عما تعملون} فذكر أنه الحق من الله وارتقاءه المقام الأول, حيث كان موافقاً لرضا الرسول صلى الله عليه وسلم فبين أنه الحق أيضاً من الله يحبه ويرتضيه, وذكر في الأمر الثالث حكمة قطع حجة المخالف من اليهود الذين كانوا يتحججون باستقبال الرسول إلى قبلتهم وقد كانوا يعلمون بما في كتبهم أنه سيصرف إلى قبلة إبراهيم عليه السلام إلى الكعبة, وكذلك مشركو العرب انقطعت حجتهم لما صرف الرسول صلى الله عليه وسلم عن قبلة اليهود إلى قبلة إبراهيم التي هي أشرف, وقد كانوا يعظمون الكعبة وأعجبهم استقبال الرسول إليها, وقيل غير ذلك من الأجوبة عن حكمة التكرار, وقد بسطها الرازي وغيره, والله أعلم. وقوله, {لئلا يكون للناس عليكم حجة} أي: أهل الكتاب فإنهم يعلمون من صفة هذه الأمة التوجه إلى الكعبة, فإذا فقدوا ذلك من صفتها ربما احتجوا بها على المسلمين, ولئلا يحتجوا بموافقة المسلمين إياهم في التوجه إلى بيت المقدس, وهذا أظهر, قال أبو العالية: {لئلا يكون للناس عليكم حجة} يعني به أهل الكتاب حين قالوا: صرف محمد إلى الكعبة. وقالوا: اشتاق الرجل إلى بيت أبيه ودين قومه وكان حجتهم على النبي صلى الله عليه وسلم انصرافه إلى البيت الحرام, أن قالوا, سيرجع إلى ديننا كما رجع إلى قبلتنا, قال ابن أبي حاتم: وروي عن مجاهد وعطاء والضحاك والربيع بن أنس وقتادة والسدي نحو هذا, وقال هؤلاء في قوله {إلا الذين ظلموا منهم} يعني مشركي قريش. ووجه بعضهم حجة الظلمة وهي داحضة, أن قالوا: إن هذا الرجل يزعم أنه على دين إبراهيم, فلم يرجع عنه والجواب أن الله تعالى اختار له التوجه إلى بيت المقدس, أولا لما له تعالى في ذلك من الحكمة, فأطاع ربه تعالى في ذلك ثم صرفه إلى قبلة إبراهيم وهي الكعبة, فامتثل أمر الله في ذلك أيضاً, فهو صلوات الله وسلامه عليه مطيع لله في جميع أحواله لا يخرج عن أمر الله طرفة عين وأمته تبع له, وقوله, {فلا تخشوهم واخشوني} أي لا تخشوا شبه الظلمة المتعنتين وأفردوا الخشية لي, فإنه تعالى هو أهل أن يخشى منه, وقوله: {ولأتم نعمتي عليكم} عطف على {لئلا يكون للناس عليكم حجة}, أي, لأتم نعمتي عليكم فيما شرعت لكم من استقبال الكعبة, لتكمل لكم الشريعة من جميع وجوهها {ولعلكم تهتدون} أي إلى ما ضلت عنه الأمم هديناكم إليه وخصصناكم به, ولهذا كانت هذه الأمة أشرف الأمم وأفضلها.
كَمَآ أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولاً مّنْكُمْ يَتْلُواْ عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكّيكُمْ وَيُعَلّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلّمُكُم مّا لَمْ تَكُونُواْ تَعْلَمُونَ * فَاذْكُرُونِيَ أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُواْ لِي وَلاَ تَكْفُرُونِ
يذكر تعالى عباده المؤمنين ما أنعم به عليهم من بعثة الرسول محمد صلى الله عليه وسلم إليهم يتلو عليهم آيات الله مبينات, ويزكيهم, أي, يطهرهم من رذائل الأخلاق ودنس النفوس وأفعال الجاهلية, ويخرجهم من الظلمات إلى النور ويعلمهم الكتاب, وهو القرآن, والحكمة وهي السنة, ويعلمهم مالم يكونوا يعلمون, فكانوا في الجاهلية الجهلاء يسفهون بالعقول الغراء, فانتقلوا ببركة رسالته, ويمن سفارته, إلى حال الأولياء, وسجايا العلماء. فصاروا أعمق الناس علماً, وأبرهم قلوباً, وأقلهم تكلفاً, وأصدقهم لهجة. وقال تعالى: {لقد منّ الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولاً منهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم} الاَية, وذّم من لم يعرف قدر هذه النعمة, فقال تعالى: {ألم تر إلى الذين بدلوا نعمة الله كفراً وأحلوا قومهم دار البوار} قال ابن عباس: يعني بنعمة الله محمداً صلى الله عليه وسلم, ولهذا ندب الله المؤمنين إلى الاعتراف بهذه النعمة ومقابلتها بذكره وشكره, وقال: {فاذكروني أذكركم واشكروا لي ولا تكفرون} قال مجاهد, في قوله: {كما أرسلنا فيكم رسولاً منكم} يقول: كما فعلت فاذكروني, قال عبد الله بن وهب: عن هشام بن سعد عن زيد بن أسلم أن موسى عليه السلام قال: يا رب كيف أشكرك ؟ قال له ربه: « تذكرني ولا تنساني, فإذا ذكرتني فقد شكرتني, وإذا نسيتني فقد كفرتني» قال الحسن البصري وأبو العالية والسدي والربيع بن أنس: أن الله يذكر من ذكره ويزيد من شكره ويعذب من كفره, وقال بعض السلف في قوله تعالى, {اتقوا الله حق تقاته} قال, هو أن يطاع فلا يعصى ويذكر فلا ينسى ويشكر فلا يكفر, وقال ابن أبي حاتم, حدثنا الحسن بن محمد بن الصباح, أخبرنا يزيد بن هارون, أخبرنا عمارة الصيدلاني, أخبرنا مكحول الأزدي, قال: قلت لابن عمر: أرأيت قاتل النفس وشارب الخمر والسارق والزاني يذكر الله, وقد قال الله تعالى: {فاذكروني أذكركم} ؟ قال: إذا ذكر الله هذا ذكره الله بلعنته حتى يسكت, وقال الحسن البصري في قوله: {فاذكروني أذكركم} قال: اذكروني فيما افترضت عليكم أذكركم فيما أوجبت لكم على نفسي, وعن سعيد بن جبير: اذكروني بطاعتي أذكركم بمغفرتي, وفي رواية, برحمتي. وعن ابن عباس في قوله: {اذكروني أذكركم} قال: ذكر الله إياكم أكبر من ذكركم إياه. وفي الحديث الصحيح: «يقول الله تعالى من ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي ومن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منه». قال الإمام أحمد: حدثنا عبد الرزاق, أخبرنا معمر عن قتادة عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «قال الله عز وجل: يا ابن آدم, إن ذكرتني في نفسك ذكرتك في نفسي, إن ذكرتني في ملأ ذكرتك في ملأ من الملائكة ـ أو قال, في ملأ خير منه ـ وإن دنوت مني شبراً دنوت منك ذراعاً, وإن دنوت مني ذراعاً دنوت منك باعاً, وإن أتيتني تمشي أتيتك هرولة», صحيح الإسناد أخرجه البخاري من حديث قتادة, وعنده قال قتادة: الله أقرب بالرحمة, وقوله: {واشكروا لي ولا تكفرون} أمر الله تعالى بشكره ووعد على شكره بمزيد الخير فقال: {وإذ تأذن ربكم لئن شكرتم لأزيدنكم ولئن كفرتم إن عذابي لشديد} وقال الإمام أحمد: حدثنا روح, حدثنا شعبة عن الفضيل بن فضالة ـ رجل من قيس ـ حدثنا أبو رجاء العطاردي, قال: خرج علينا عمران بن حصين وعليه مطرف من خز لم نره عليه قبل ذلك ولا بعده, فقال, إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال, «من أنعم الله عليه نعمة فإن الله يحب أن يرى أثر نعمته على خلقه», وقال روح مرة: على عبده.
** يَآأَيّهَا الّذِينَ آمَنُواْ اسْتَعِينُواْ بِالصّبْرِ وَالصّلاَةِ إِنّ اللّهَ مَعَ الصّابِرِينَ * وَلاَ تَقُولُواْ لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبيلِ اللّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِن لاّ تَشْعُرُونَ
لما فرع تعالى من بيان الأمر بالشكر, شرع في بيان الصبر والإرشاد والاستعانة بالصبر والصلاة, فإن العبد إما أن يكون في نعمة فيشكر عليها, أو في نقمة فيصبر عليها كما جاء في الحديث «عجباً للمؤمن لا يقضي الله له قضاء إلا كان خيراً له: إن أصابته سراء فشكر كان خيراً له وإن أصابته ضراء فصبر كان خيراً له», وبين تعالى أن أجود ما يستعان به على تحمل المصائب الصبر والصلاة كما تقدم في قوله: {واستعينوا بالصبر والصلاة وإنها لكبيرة إلا على الخاشعين}, وفي الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا حزبه أمر صلى, والصبر صبران فصبر ترك المحارم والمآثم وصبر على فعل الطاعات والقربات, والثاني أكثر ثواباً لأنه المقصود. وأما الصبر الثالث وهو الصبر على المصائب والنوائب, فذلك أيضاً واجب كالاستغفار من المعايب, كما قال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: الصبر في بابين: الصبر لله بما أحب وإن ثقل على الأنفس والأبدان, والصبر لله عما كره وإن نازعت إليه الأهواء, فمن كان هكذا فهو من الصابرين الذين يسلم عليهم إن شاء الله, وقال علي بن الحسين زين العابدين: إذا جمع الله الأولين والاَخرين ينادي مناد, أين الصابرون ليدخلوا الجنة قبل الحساب ؟ قال: فيقوم عنق من الناس فتتلقاهم الملائكة فيقولون: إلى أين يا بني آدم ؟ فيقولون: إلى الجنة, فيقولون: قبل الحساب ؟ قالوا: نعم, قالوا: ومن أنتم ؟ قالوا: نحن الصابرون, قالوا: وما كان صبركم, قالوا: صبرنا على طاعة الله وصبرنا عن معصية الله حتى توفانا الله, قالوا: أنتم كما قلتم ادخلوا الجنة فنعم أجر العاملين (قلت) ويشهد لهذا قوله تعالى: {إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب} وقال سعيد بن جبير: الصبر اعتراف العبد لله بما أصاب منه, واحتسابه عند الله رجاء ثوابه وقد يجزع الرجل وهو متجلد لا يرى منه إلا الصبر.
وقوله تعالى: {ولا تقولوا لمن يقتل في سبيل الله أموات بل أحياء}, يخبر تعالى أن الشهداء في برزخهم أحياء يرزقون, كما جاء في صحيح مسلم: أن أرواح الشهداء في حواصل طير خضر تسرح في الجنة حيث شاءت ثم تأوي إلى قناديل معلقة تحت العرش, فاطلع عليهم ربك إطلاعة, فقال: ماذا تبغون ؟ فقالوا: يا ربنا وأي شيء نبغي, وقد أعطيتنا ما لم تعط أحداً من خلقك ؟ ثم عاد عليهم بمثل هذا فلما رأوا أنهم لا يتركون من أن يسألوا, قالوا: نريد أن تردنا إلى الدار الدنيا فنقاتل في سبيلك حتى نقتل فيك مرة أخرى ـ لما يرون من ثواب الشهادة ـ فيقول الرب جل جلاله: إني كتبت أنهم إليها لا يرجعون.
وفي الحديث الذي رواه الإمام أحمد عن الإمام الشافعي عن الإمام مالك عن الزهري عن عبد الرحمن بن كعب بن مالك عن أبيه, قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «نسمة المؤمن طائر تعلق في شجر الجنة حتى يرجعه الله إلى جسده يوم يبعثه» ففيه دلالة لعموم المؤمنين أيضاً وإن كان الشهداء قد خصصوا بالذكر في القرآن تشريفاً وتكريماً وتعظيماً.