** بِئْسَمَا اشْتَرَوْاْ بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَن يَكْفُرُواْ بِمَآ أنَزَلَ اللّهُ بَغْياً أَن يُنَزّلُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ عَلَىَ مَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ فَبَآءُو بِغَضَبٍ عَلَىَ غَضَبٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مّهِينٌ
قال مجاهد {بئسما اشتروا به أنفسهم} يهود شروا الحق بالباطل وكتمان ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم بأن يبينوه, وقال السدي {بئسما اشتروا به أنفسهم} يقول: باعوا به أنفسهم, يقول: بئسما اعتاضوا لأنفسهم فرضوا به وعدلوا إليه من الكفر بما أنزل اللهعلى محمد صلى الله عليه وسلم عن تصديقه وموازرته ونصرته, وإنما حملهم على ذلك البغي والحسد والكراهية لـ {أن ينزل الله من فضله على من يشاء من عباده} ولا حسد أعظم من هذا, قال ابن إسحاق, عن محمد, عن عكرمة أو سعيد, عن ابن عباس {بئسما اشتروا به أنفسهم أن يكفروا بما أنزل الله بغياً أن ينزل الله من فضله على من يشاء من عباده} أي أن الله جعله من غيرهم {فباءوا بغضب على عضب} قال ابن عباس: في الغضب على الغضب, فغضب عليهم فيما كانوا ضيعوا من التوراة وهي معهم, وغضب بكفرهم بهذا النبي الذي بعث الله إليهم (قلت) ومعنى {باءوا} استوجبوا واستحقوا واستقروا بغضب على غضب, وقال أبو العالية: غضب الله عليهم بكفرهم بالإنجيل وعيسى, ثم غضب الله عليهم بكفرهم بمحمد صلى الله عليه وسلم وبالقرآن, وعن عكرمة وقتادة مثله, قال السدي: أما الغضب الأول, فهو حين غضب عليهم في العجل, وأما الغضب الثاني, فغضب عليهم حين كفروا بمحمد صلى الله عليه وسلم, وعن ابن عباس مثله. وقوله تعالى: {وللكافرين عذاب مهين} لما كان كفرهم سببه البغي والحسد, ومنشأ ذلك التكبر, قوبلوا بالإهانة والصغار في الدنيا والاَخرة, كما قال تعالى: {إن الذين يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنم داخرين} أي صاغرين حقيرين ذليلين راغمين, وقد قال الإمام أحمد: حدثنا يحيى, حدثنا ابن عجلان, عن عمرو بن شعيب, عن أبيه, عن جده, عن النبي صلى الله عليه وسلم, قال:«يحشر المتكبرون يوم القيامة أمثال الذر في صور الناس يعلوهم كل شيء من الصغار حتى يدخلوا سجناً في جهنم يقال له بولس تعلوهم نار الأنيار يسقون من طينة الخبال عصارة أهل النار} .
** وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُواْ بِمَا أَنْزَلَ اللّهُ قَالُواْ نُؤْمِنُ بِمَآ أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَيَكْفُرونَ بِمَا وَرَآءَهُ وَهُوَ الْحَقّ مُصَدّقاً لّمَا مَعَهُمْ قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَآءَ اللّهِ مِن قَبْلُ إِن كُنْتُمْ مّؤْمِنِينَ * وَلَقَدْ جَآءَكُمْ مّوسَىَ بِالْبَيّنَاتِ ثُمّ اتّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِن بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ
يقول تعالى: {وإذا قيل لهم} أي لليهود وأمثالهم من أهل الكتاب {آمنوا بما أنزل الله} على محمد صلى الله عليه وسلم وصدقوه واتبعوه {قالوا نؤمن بما أنزل علينا} أي يكفينا الإيمان بما أنزل علينا من التوراة والإنجيل ولا نقر إلا بذلك {ويكفرون بما وراءه} يعني بما بعده {وهو الحق مصدقاً لما معهم} أي وهم يعلمون أن ما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم {الحق مصدقاً لما معهم} منصوباً على الحال, أي في حال تصديقه لما معهم من التوراة والإنجيل, فالحجة قائمة عليهم بذلك, كما قال تعالى: {الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبناءهم} ثم قال تعالى: {فلم تقتلون أنبياء اللهمن قبل إن كنتم مؤمنين} أي إن كنتم صادقين في دعواكم الإيمان بما أنزل إليكم, فلم قتلتم الأنبياء الذين جاؤوكم بتصديق التوراة التي بأيديكم والحكم بها وعدم نسخها, وأنتم تعلمون صدقهم ؟ قتلتموهم بغياً وعناداً واستكباراً على رسل الله, فلستم تتبعون إلا مجرد الأهواء والاَراء والتشهي, كما قال تعالى: {أفكلما جاءكم رسول بما لا تهوى أنفسكم استكبرتم ففريقاً كذبتم وفريقاً تقتلون} وقال السدي: في هذه الاَية يعيرهم الله تبارك وتعالى: {قل فلم تقتلون أنبياء الله من قبل إن كنتم مؤمنين} وقال أبو جعفر بن جرير: قل يا محمد ليهود بني إسرائيل إذا قلت لهم آمنوا بما أنزل الله, قالوا: نؤمن بما أنزل علينا لم تقتلون ـ إن كنتم مؤمنين بما أنزل الله ـ أنبياء الله يا معشر اليهود وقد حرم الله في الكتاب الذي أنزل عليكم قتلهم, بل أمركم باتباعهم وطاعتهم وتصديقهم, وذلك من الله تكذيب لهم في قولهم: نؤمن بما أنزل علينا وتعيير لهم {ولقد جاءكم موسى بالبينات} أي بالاَيات الواضحات والدلائل القاطعات على أنه رسول الله, وأنه لا إله إلا الله, والاَيات البينات هي: الطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم والعصا واليد, وفرق البحر وتظليلهم بالغمام والمن والسلوى والحجر وغير ذلك من الاَيات التي شاهدوها ثم اتخذتم العجل أي معبوداً من دون الله في زمان موسى وأيامه, وقوله: من بعده, أي من بعد ما ذهب عنكم إلى الطور لمناجاة الله عز وجل, كما قال تعالى: {واتخذ قوم موسى من بعده من حليهم عجلاً جسداً له خوار}, {وأنتم ظالمون} , أي وأنتم ظالمون في هذا الصنيع الذي صنعتموه من عبادتكم العجل وانتم تعلمون أنه لا إله إلا الله كما قال تعالى: {ولما سقط في أيديهم ورأوا أنهم قد ضلوا قالوا لئن لم يرحمنا ربنا ويغفر لنا لنكونن من الخاسرين} .
** وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطّورَ خُذُواْ مَآ آتَيْنَاكُم بِقُوّةٍ وَاسْمَعُواْ قَالُواْ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَأُشْرِبُواْ فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ قُلْ بِئْسَمَا يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمَانُكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مّؤْمِنِينَ
يعدد سبحانه وتعالى عليهم خطأهم, ومخالفتهم للميثاق, وعتوهم وإعراضهم عنه, حتى رفع الطور عليهم حتى قبلوه ثم خالفوه ولهذا {قالوا سمعنا وعصينا} وقد تقدم تفسير ذلك {وأشربوا في قلوبهم العجل بكفرهم} قال عبد الرزاق, عن معمر عن قتادة {وأشربوا في قلوبهم العجل بكفرهم} قال أشربوا حبه حتى خلص ذلك إلى قلوبهم, وكذا قال أبو العالية والربيع بن أنس, وقال الإمام أحمد: حدثنا عصام بن خالد, حدثني أبو بكر بن عبد الله بن أبي مريم الغساني, عن خالد بن محمد الثقفي, عن بلال بن أبي الدرداء, عن أبي الدرداء, عن النبي صلى الله عليه وسلم: قال «حبك الشيء يعمي ويصم» ورواه أبو داود عن حيوة بن شريح, عن بقية, عن أبي بكر بن عبد الله بن أبي مريم به, وقال السدي: أخذ موسى عليه السلام, العجل فذبحه بالمبرد, ثم ذراه في البحر, ثم لم يبق بحر يجري يومئذ إلا وقع فيه شيء, ثم قال لهم موسى, اشربوا منه, فشربوا, فمن كان يحبه خرج على شاربيه الذهب, فذلك حين يقول الله تعالى: {وأشربوا في قلوبهم العجل} وقال ابن أبي حاتم: حدثنا عبد الله بن رجاء, حدثنا إسرائيل, عن أبي إسحاق, عن عمارة بن عمير وأبي عبد الرحمن السلمي, عن علي رضي الله عنه, قال: عمد موسى إلى العجل, فوضع عليه المبارد فبرده بها, وهو على شاطىء نهر, فما شرب أحد من ذلك الماء ممن كان يعبد العجل إلا اصفر وجهه مثل الذهب, وقال سعيد بن جبير {وأشربوا في قلوبهم العجل} قال: لما أحرق العجل, برد ثم نسف, فحسوا الماء حتى عادت وجوههم كالزعفران, وحكى القرطبي عن كتاب القشيري: أنه ما شرب أحد «منه» ممن عبد العجل إلا جن, ثم قال القرطبي: وهذا شيء غير ما ههنا, لأن المقصود من هذا السياق: أنه ظهر على شفاههم ووجوههم, والمذكور ههنا: أنهم أشربوا في قلوبهم العجل, يعني في حال عبادتهم له, ثم أنشد قول النابغة في زوجته عثمة:
تغلغل حب عثمة في فؤاديفباديه مع الخافي يسيرتغلغل حيث لم يبلغ شرابولا حزن ولم يبلغ سرورأكاد إذ ذكرت العهد منهاأطير لو أن إنساناً يطير
وقوله {قل بئسما يأمركم به إيمانكم إن كنتم مؤمنين} أي بئسما تعتمدونه في قديم الدهر وحديثه من كفركم بآيات الله, ومخالفتكم الأنبياء ثم اعتمادكم في كفركم بمحمد صلى الله عليه وسلم وهذا أكبر ذنوبكم وأشد الأمر عليكم إذ كفرتم بخاتم الرسل وسيد الأنبياء والمرسلين, المبعوث إلى الناس أجمعين, فكيف تدّعون لأنفسكم الإيمان, وقد فعلتم هذه الأفاعيل القبيحة: من نقضكم المواثيق, وكفركم بآيات الله, وعبادتكم العجل من دون الله ؟.
** قُلْ إِن كَانَتْ لَكُمُ الدّارُ الاَخِرَةُ عِندَ اللّهِ خَالِصَةً مّن دُونِ النّاسِ فَتَمَنّوُاْ الْمَوْتَ إِن كُنْتُمْ صَادِقِينَ * وَلَنْ يَتَمَنّوْهُ أَبَداً بِمَا قَدّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللّهُ عَلِيمٌ بِالظّالِمينَ * وَلَتَجِدَنّهُمْ أَحْرَصَ النّاسِ عَلَىَ حَيَاةٍ وَمِنَ الّذِينَ أَشْرَكُواْ يَوَدّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ أَن يُعَمّرَ وَاللّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ
قال محمد بن إسحاق, عن محمد بن أبي محمد, عن عكرمة أو سعيد بن جبير, عن ابن عباس رضي الله عنه, يقول الله تعالى لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: {قل إن كانت لكم الدار الاَخرة عند الله خالصة من دون الناس فتمنوا الموت إن كنتم صادقين} أي ادعوا بالموت على أي الفريقين أكذب, فأبوا ذلك على رسول الله صلى الله عليه وسلم {ولن يتمنوه أبداً بما قدمت أيديهم, والله عليم بالظالمين} أي بعلمهم بما عندهم من العلم بل والكفر بذلك ولو تمنوه يوم قال لهم ذلك ما بقي على الأرض يهودي إلا مات. وقال الضحاك عن ابن عباس: فتمنوا الموت فسلوا الموت وقال عبد الرزاق عن معمر عن عبد الكريم الجزري عن عكرمة قوله: فتمنوا الموت إن كنتم صادقين. قال: قال ابن عباس: لو تمنى يهود الموت, لماتوا. وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي, حدثنا علي بن محمد الطنافسي, حدثنا عثام: سمعت الأعمش قال: لا أظنه إلا عن المنهال, عن سعيد بن جبير, عن ابن عباس, قال: لو تمنوا الموت لشرق أحدهم بريقه, وهذه أسانيد صحيحة إلى ابن عباس, وقال ابن جرير في تفسيره: وبلغنا أن النبي صلى الله عليه وسلم, قال «لو أن اليهود تمنوا الموت لماتوا, ولرأوا مقاعدهم من النار ولو خرج الذين يباهلون رسول الله صلى الله عليه وسلم لرجعوا لا يجدون أهلاً ولا مالاً», حدثنا بذلك أبو كريب, حدثنا زكريا بن عدي, حدثنا عبيد الله بن عمرو عن عبد الكريم, عن عكرمة, عن ابن عباس, عن رسول الله صلى الله عليه وسلم, ورواه الإمام أحمد عن إسماعيل بن يزيد الرقي, حدثنا فرات عن عبد الكريم به, وقال ابن أبي حاتم: حدثنا الحسن بن أحمد, حدثنا إبراهيم بن عبد الله بن بشار, حدثنا سرور بن المغيرة, عن عباد بن منصور, عن الحسن, قال: قول الله: ما كانوا ليتمنوه بما قدمت أيديهم, قلت: أرأيتك لو أنهم أحبوا الموت حين قيل لهم تمنوا الموت أتراهم كانوا ميتين, قال: لا والله ما كانوا ليموتوا ولو تمنوا الموت, وما كانوا ليتمنوه, وقد قال الله ما سمعت{ولن يتمنوه أبداً بما قدمت أيديهم والله عليم بالظالمين} وهذا غريب عن الحسن, ثم هذا الذي فسر به ابن عباس الاَية, هو المتعين وهو الدعاء على أي الفريقي أكذب منهم أو من المسلمين على وجه المباهلة, ونقله ابن جرير عن قتادة وأبي العالية والربيع بن أنس رحمهم الله تعالى, ونظير هذه الاَية قوله تعالى في سورة الجمعة {قل يا أيها الذين هادوا إن زعمتم أنكم أولياء لله من دون الناس فتمنوا الموت إن كنتم صادقين * ولا يتمنونه أبداً بما قدمت أيديهم والله عليم بالظالمين * قل إن الموت الذي تفرون منه فإنه ملاقيكم ثم تردون إلى عالم الغيب والشهادة فينبئكم بما كنتم تعملون} فهم عليهم لعائن الله تعالى, لما زعموا أنهم أبناء الله وأحباؤه, قالوا: لن يدخل الجنة إلا من كانوا يهوداً أو نصارى, دعوا إلى المباهلة والدعاء على أكذب الطائفتين منهم أو من المسلمين, لما نكلوا عن ذلك, علم كل أحد إنهم ظالمون, لأنهم لو كانوا جازمين بما هم فيه, لكانوا أقدموا على ذلك, فلما تأخروا, علم كذبهم وهذا كما دعا رسول الله وفد نجران من النصارى بعد قيام الحجة عليهم في المناظرة وعتوهم وعنادهم إلى المباهلة, فقال: {فمن حاجك فيه من بعد ما جاءك من العلم فقل تعالوا ندع أبناءنا وأبناءكم ونساءنا ونساءكم وأنفسنا وأنفسكم ثم نبتهل فنجعل لعنة الله على الكاذبين} فلما رأوا ذلك, قال بعض القوم لبعض: والله لئن باهلتم هذا النبي لا يبقى منكم عين تطرف, فعند ذلك جنحوا للسلم, وبذلوا الجزية عن يد وهم صاغرون, فضربها عليهم, وبعث معهم أبا عبيدة بن الجراح أميناً, ومثل هذا المعنى أو قريب منه قول الله تعالى لنبيه أن يقول للمشركين {قل من كان في الضلالة فليمدد له الرحمن مداً} أي من كان في الضلالة منا ومنكم فزاده الله مما هو فيه ومد له واستدرجه, كما سيأتي تقريره في موضعه, إن شاء الله تعالى.
أما من فسر الاَية على معنى {إن كنتم صادقين} أي في دعواكم, فتمنوا الاَن الموت, ولم يتعرض هولاء للمباهلة, كما قرره طائفة من المتكلمين وغيرهم, ومال إليه ابن جرير بعد ما قارب القول الأول, فإنه قال: القول في تأويل قوله تعالى: {قل إن كانت لكم الدار الاَخرة عند الله خالصة من دون الناس} الاَية, فهذه الاَية مما احتج الله سبحانه لنبيه صلى الله عليه وسلم على اليهود الذين كانوا بين ظهراني مهاجره, وفضح بها أحبارهم وعلماءهم وذلك أن الله تعالى أمر نبيه إلى قضية عادلة فيما كان بينه وبينهم من الخلاف, كما أمره أن يدعو الفريق الاَخر من النصارى إذ خالفوه في عيسى ابن مريم عليه السلام, وجادلوه فيه إلى فاصلة بينه وبينهم من المباهلة, فقال لفريق اليهود: إن كنتم محقين فتمنوا الموت, فإن ذلك غير ضاركم إن كنتم محقين فيما تدعون من الإيمان وقرب المنزلة من الله لكم لكي يعطيكم أمنيتكم من الموت إذا تمنيتم, فإنما تصيرون إلى الراحة من تعب الدنيا ونصبها وكدر عيشها والفوز بجوار الله في جناته إن كان الأمر كما تزعمون, من أن الدار الاَخرة لكم خاصة دوننا, وإن لم تعطوها علم الناس أنكم المبطلون ونحن المحقون في دعوانا, وانكشف أمرنا وأمركم لهم, فامتنعت اليهود من الإجابة إلى ذلك لعلمها, أنها إن تمنت الموت هلكت فذهبت دنياها, وصارت إلى خزي الأبد في آخرتها, كما امتنع فريق النصارى الذين جادلوا النبي صلى الله عليه وسلم في عيسى إذ دعوا للمباهلة من المباهلة.
فهذا الكلام منه أوله حسن, وآخره فيه نظر, وذلك أنه لا تظهر الحجة عليهم على هذا التأويل, إذ يقال: إنه لا يلزم من كونهم يعتقدون أنهم صادقون في دعواهم, أنهم يتمنون الموت, فإنه لا ملازمة بين وجود الصلاح وتمني الموت, وكم من صالح لا يتمنى الموت, بل يود أن يعمر ليزداد خيراً وترتفع درجته في الجنة, كما جاء في الحديث «خيركم من طال عمره, وحسن عمله» ولهم مع ذلك أن يقولوا على هذا: فها أنتم تعتقدون أيها المسلمون أنكم أصحاب الجنة وأنتم لا تتمنون في حال الصحة الموت, فكيف تلزموننا بما لا يلزمكم ؟ وهذا كله إنما نشأ من تفسير الاَية على هذا المعنى, فأما على تفسير ابن عباس: فلا يلزم عليه شيء من ذلك, بل قيل لهم كلام نصف إن كنتم تعتقدون أنكم أولياء الله من دون الناس, وأنكم أبناء الله وأحباؤه, وأنكم من أهل الجنة ومن عداكم من أهل النار, فباهلوا على ذلك وادعوا على الكاذبين منكم أو من غيركم, واعلموا أن المباهلة تستأصل الكاذب لا محالة, فلما تيقنوا ذلك وعرفوا صدقه, نكلوا عن المباهلة لما يعلمون من كذبهم وافترائهم وكتمانهم الحق من صفة الرسول صلى الله عليه وسلم ونعته, وهم يعرفونه كما يعرفون أبناءهم ويتحققونه, فعلم كل أحد باطلهم وخزيهم وضلالهم وعنادهم, عليهم لعائن الله المتتابعة إلى يوم القيامة, وسميت هذه المباهلة تمنياً, لأن كل محق يود لو أهلك الله المبطل المناظر له, ولا سيما إذا كان في ذلك حجة له في بيان حقه وظهوره, وكانت المباهلة بالموت لأن الحياة عندهم عزيزة عظيمة لما يعلمون من سوء مآلهم بعد الموت, ولهذا قال تعالى: {ولن يتمنوه أبداً بما قدمت أيديهم والله عليم بالظالمين, ولتجدنهم أحرص الناس على حياة} أي على طول العمر لما يعلمون من مآلهم السيء, وعاقبتهم عند الله الخاسرة, لأن الدنيا سجن المؤمن, وجنة الكافر, فهم يودون لو تأخروا عن مقام الاَخرة بكل ما أمكنهم, وما يحاذرون منه واقع بهم لا محالة حتى وهم أحرص من المشركين الذين لا كتاب لهم, وهذا من باب عطف الخاص على العام, قال ابن أبي حاتم: حدثنا أحمد بن سنان, حدثنا عبد الرحمن بن مهدي, عن سفيان, عن الأعمش, عن مسلم البطين, عن سعيد بن جبير, عن ابن عباس {ومن الذي أشركوا ؟} قال: الأعاجم, وكذا رواه الحاكم في مستدركه من حديث الثوري, وقال: صحيح على شرطهما, ولم يخرجاه. قال: وقد اتفقا على سند تفسير الصحابي, وقال الحسن البصري: ولتجدنهم أحرص الناس على حياة. قال: المنافق أحرص الناس, وأحرص من المشرك على حياة, يود أحدهم أي يود أحد اليهود, كما يدل عليه نظم السياق, وقال أبو العالية: يود أحدهم, أي أحد المجوس, وهو يرجع إلى الأول لو يعمر ألف سنة, قال الأعمش, عن مسلم البطين, عن سعيد بن جبير, عن ابن عباس: {يود أحدهم لو يعمر ألف سنة} قال: هو كقول الفارسي «ده هزارسال» يقول: عشرة آلاف سنة. وكذا روي عن سعيد بن جبير نفسه أيضاً, وقال ابن جرير: حدثنا محمد بن علي بن الحسن بن شقيق: سمعت أبي يقول: حدثنا أبو حمزة, عن الأعمش عن مجاهد, عن ابن عباس في قوله {يود أحدهم لو يعمر ألف سنة} قال هو قول الأعاجم هزارسال نوروز ومهرجان وقال مجاهد {يود أحدهم لو يعمر ألف سنة} قال: حببت إليهم الخطيئة طول العمر, وقال مجاهد بن إسحاق, عن محمد بن أبي محمد, عن سعيد أو عكرمة, عن ابن عباس {وما هو بمزحزحه من العذاب أن يعمر} أي وما هو بمنجيه من العذاب, وذلك أن المشرك لا يرجو بعثاً بعد الموت, فهو يحب طول الحياة, وأن اليهودي قد عرف ما له في الاَخرة من الخزي, بما ضيع ما عنده من العلم, وقال عوفي عن ابن عباس {وما هو بمزحزحه من العذاب أن يعمر} قال: هم الذين عادوا جبرائيل, قال أبو العالية وابن عمر: فما ذاك بمغيثه من العذاب, ولا منجيه منه. وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم في هذه الاَية: يهود أحرص على الحياة من هؤلاء, وقد ودّ هؤلاء لو يعمر أحدهم ألف سنة, وليس بمزحزحه من العذاب لو عمر كما أن عمر إبليس لم ينفعه إذ كان كافراً, {والله بصير بما يعملون} أي خبير بصير بما يعمل عباده من خير وشر, وسيجازي كل عامل بعمله.
** قُلْ مَن كَانَ عَدُوّاً لّجِبْرِيلَ فَإِنّهُ نَزّلَهُ عَلَىَ قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللّهِ مُصَدّقاً لّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدًى وَبُشْرَىَ لِلْمُؤْمِنِينَ * مَن كَانَ عَدُوّاً للّهِ وَمَلآئِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنّ اللّهَ عَدُوّ لّلْكَافِرِينَ
قال الإمام أبو جعفر بن جرير الطبري رحمه الله: أجمع أهل العلم بالتأويل جميعاً أن هذه الاَية نزلت جواباً لليهود من بني إسرائيل, إذ زعموا أن جبريل عدوّ لهم, وأن ميكائيل ولي لهم, ثم اختلفوا في السبب الذي من أجله قالوا ذلك, فقال بعضهم: إنما كان سبب قيلهم ذلك, من أجل مناظرة جرت بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم في أمر نبوته (ذكر من قال ذلك) حدثنا أبو كريب, حدثنا يونس بن بكير عن عبد الحميد بن بهرام, عن شهر بن حوشب, عن ابن عباس, أنه قال: حضرت عصابة من اليهود رسول الله صلى الله عليه وسلم, فقالوا: يا أبا القاسم, حدثنا عن خلال نسألك عنهن لا يعلمهن إلا نبي, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «سلوا عما شئتم, ولكن اجعلوا لي ذمة الله وما أخذ يعقوب على بنيه لئن أنا حدثتكم عن شيء فعرفتموه لتتابعنني على الإسلام» فقالوا: ذلك لك, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «سلوا عما شئتم» قالوا: أخبرنا عن أربع خلال نسألك عنهن, أخبرنا أي الطعام حرم إسرائيل على نفسه من قبل أن تنزل التوراة ؟ وأخبرنا كيف ماء المرأة وماء الرجل, وكيف يكون الذكر منه والأنثى ؟ وأخبرنا بهذا النبي الأمي في التوراة, ومن وليه من الملائكة ؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم, «عليكم عهد الله لئن أنا أنبأتكم لتتابعنني ؟» فأعطوه ما شاء الله من عهد وميثاق, فقال: «نشدتكم بالذي أنزل التوراة على موسى هل تعلمون أن إسرائيل يعقوب مرض مرضاً شديداً, فطال سقمه منه, فنذر لله نذراً لئن عافاه الله من مرضه ليحرمن أحب الطعام والشراب إليه, وكان أحب الطعام إليه: لحوم الإبل, وأحب الشراب إليه ألبانها» فقالوا: اللهم نعم, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اللهم اشهد عليهم, وأنشدكم بالله الذي لا إله إلا هو الذي أنزل التوراة على موسى هل تعلمون أن ماء الرجل غليظ أبيض, وأن ماء المرأة رقيق أصفر, فأيهما علا كان له الولد والشبه بإذن الله عز وجل, وإذا علا ماء الرجل ماء المرأة كان الولد ذكراً بإذن الله, وإذا علا ماء المرأة ماء الرجل كان الولد أنثى بإذن الله عز وجل» قالوا: اللهم نعم, «قال اللهم أشهد, وأنشدكم بالله الذي أنزل التوراة على موسى هل تعلمون أن هذا النبي الأمي تنام عيناه ولا ينام قلبه» ؟ قالوا: اللهم نعم, قال: «اللهم اشهد», قالوا: أنت الاَن فحدثنا من وليك من الملائكة, فعندها نجامعك أو نفارقك, قال: «فإن وليي جبريل, ولم يبعث الله نبياً قط إلا وهو وليه» قالوا: فعندها نفارقك, ولو كان وليك سواه من الملائكة تابعناك وصدقناك, قال: «فما يمنعكم أن تصدقوه» ؟ قالوا: إنه عدونا, فأنزل الله عز وجل: {قل من كان عدواً لجبريل فإنه نزله على قلبك بإذن الله مصدقاً لما بين يديه ـ إلى قوله ـ لو كانوا يعلمون} فعندها باؤوا بغضب على غضب, وقد رواه الإمام أحمد في مسنده عن أبي النضر هاشم بن القاسم وعبد الرحمن بن حميد في تفسيره عن أحمد بن يونس كلاهما عن عبد الحميد بن بهرام به, ورواه أحمد أيضاً عن الحسين بن محمد المروزي عن عبد الحميد بنحوه وقد رواه محمد بن إسحاق بن يسار, حدثنا عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي حسين, عن شهر بن حوشب, فذكره مرسلاً وزاد فيه, قالوا فأخبرنا عن الروح, قال: «فأنشدكم بالله وبأيامه عند بني إسرائيل هل تعلمون أنه جبريل وهوالذي يأتيني» قالوا: اللهم نعم, ولكنه عدو لنا, وهو ملك إنما يأتي بالشدة وسفك الدماء, فلولا ذلك اتبعناك, فأنزل الله تعالى فيهم: {قل من كان عدواً لجبريل ـ إلى قوله ـ لا يعلمون} وقال الإمام أحمد: حدثنا أبو أحمد, حدثنا عبد الله بن الوليد العجلي عن بكير بن شهاب, عن سعيد بن جبير, عن ابن عباس, قال: أقبلت يهود إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا أبا القاسم, أخبرنا عن خمسة أشياء, فإن أنبأتنا بهن عرفنا أنك نبي واتبعناك, فأخذ عليهم ما أخذ إسرائيل على بنيه إذ قال: والله على ما نقول وكيل, قال «هاتوا» قالوا: فأخبرنا عن علامة النبي ؟ قال: «تنام عيناه ولا ينام قلبه» قالوا: أخبرنا كيف تؤنث المرأة ؟ وكيف يذكر الرجل ؟ قال: «يلتقي الماءان, فإذا علا ماء الرجل ماء المرأة أذكرت, وإذا علا ماء المرأة ماء الرجل أنثت» قالوا: أخبرنا ما حرم إسرائيل على نفسه ؟ قال: «وكان يشتكي عرق النسا, فلم يجد شيئاً يلائمه إلا ألبان كذا وكذا» قال أحمد: قال بعضهم: يعني الإبل فحرم لحومها, قالوا: صدقت, قالوا: أخبرنا ما هذا الرعد ؟ قال: «ملك من ملائكة الله عز وجل موكل بالسحاب بيديه أو في يديه مخراق من نار يزجر به السحاب يسوقه حيث أمره الله تعالى» قالوا: فما هذا الصوت الذي نسمع ؟ قال: «صوته» قالوا: صدقت, قالوا: إنما بقيت واحدة, وهي التي نتابعك إن أخبرتنا بها, أنه ليس من نبي إلا وله ملك يأيته بالخبر, فأخبرنا من صاحبك ؟ قال: «جبريل عليه السلام» قالوا: جبريل ذاك الذي ينزل بالحرب والقتال والعذاب عدونا لو قلت ميكائيل الذي ينزل بالرحمة والقطر والنبات لكان, فأنزل الله تعالى: {قل من كان عدواً لجبريل فإنه نزله على قلبك بإذن الله} إلى آخر الاَية, ورواه الترمذي والنسائي من حديث عبد الله بن الوليد به, وقال الترمذي: حسن غريب وقال سنيد في تفسيره عن حجاج بن محمد عن ابن جريج: أخبرني القاسم بن أبي بزة أن يهوداً سألوا النبي صلى الله عليه وسلم عن صاحبه الذي ينزل عليه بالوحي, قال: «جبريل» قالوا: فإنه عدو لنا ولا يأتي إلا بالحرب والشدة والقتال, فنزلت: {قل من كان عدواً لجبريل} الاَية, قال ابن جرير: قال مجاهد: قالت يهود: يا محمد ما نزل جبريل إلا بشدة وحرب وقتال فإنه لنا عدو, فنزل: {قل من كان عدواً لجبريل} الاَية, قال البخاري: قوله تعالى: {من كان عدواً لجبريل} قال عكرمة جبر وميك وإسراف: عبد. إيل: الله, حدثنا عبد الله بن منير سمع عبد الله بن بكر, حدثنا حميد عن أنس بن مالك, قال: سمع عبد الله بن سلام بمقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في أرض يخترف فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إني سائلك عن ثلاث لا يعلمهن إلا نبي: ما أول أشراط الساعة, وما أول طعام أهل الجنة, وما ينزع الوالد إلى أبيه أو إلى أمه ؟ قال: «أخبرني بهذه جبرائيل آنفاً» قال: جبريل ؟ قال: «نعم» قال: ذاك عدو اليهود من الملائكة, فقرأ هذه الاَية: {من كان عدواً لجبريل فإنه نزله على قلبك} «وأما أول أشراط الساعة, فنار تحشر الناس من المشرق إلى المغرب. وأما أول طعام يأكله أهل الجنة, فزيادة كبد الحوت, وإذا سبق ماء الرجل ماء المرأة, نزع الولد, وإذا سبق ماء المرأة نزعت» قال: أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله. يا رسول الله, إن اليهود قوم بهت, وإنهم إن يعلموا بإسلامي قبل أن تسألهم يبهتوني, فجاءت اليهود, فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أي رجل عبد الله بن سلام فيكم ؟» قالوا: خيرنا وابن خيرنا وسيدنا وابن سيدنا, قال: «أرأيتم إن أسلم» قالوا: أعاذه الله من ذلك, فخرج عبد الله فقال: أشهد أن لا إله إلا الله, وأشهد أن محمداً رسول الله. قالوا: هو شرنا وابن شرنا وانتقضوه, فقال: هذا الذي كنت أخاف يا رسول الله ـ انفرد به البخاري من هذا الوجه, وقد أخرجاه من وجه آخر عن أنس بنحوه, وفي صحيح مسلم عن ثوبان مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم قريب من هذا السياق كما سيأتي في موضعه إن شاء الله تعالى, وحكاية البخاري كما تقدم عن عكرمة هو المشهور أن إيل هو الله, وقد رواه سفيان الثوري عن خصيف, عن عكرمة, ورواه عبد بن حميد عن إبراهيم بن الحكم, عن أبيه, عن عكرمة, ورواه ابن جرير عن الحسين بن يزيد الطحان عن إسحاق بن منصور عن قيس بن عاصم عن عكرمة أنه قال: إن جبريل اسمه عبد الله, وميكائيل اسمه عبد الله, إيل: الله, ورواه يزيد النحوي عن عكرمة عن ابن عباس مثله سواء, وكذا قال غير واحد من السلف كما سيأتي قريباً, ومن الناس من يقول: إيل عبارة عن عبد, والكلمة الأخرى هي اسم الله, لأن كلمة إيل لا تتغير في الجميع فوزانه عبد الله عبد الرحمن عبد الملك عبد القدوس عبد السلام عبد الكافي عبد الجليل, فعبد موجودة في هذا كله, واختلفت الأسماء المضاف إليها, وكذلك جبرائيل وميكائيل وعزرائيل وإسرافيل ونحو ذلك, وفي كلام غير العرب يقدمون المضاف إليه على المضاف, والله أعلم.
ثم قال ابن جرير, وقال آخرون: بل كان سبب قيلهم ذلك من أجل مناظرة جرت بينهم وبين عمر بن الخطاب في أمر النبي صلى الله عليه وسلم (ذكر من قال ذلك) حدثني محمد بن المثنى, حدثني ربعي بن علية, عن داود بن أبي هند, عن الشعبي, قال: نزل عمر الروحاء, فرأى رجالاً يبتدرون أحجاراً يصلون إليها, فقال: ما بال هؤلاء ؟ قالوا يزعمون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى ههنا, قال: فكره ذلك, وقال إنما رسول الله صلى الله عليه وسلم أدركته الصلاة بواد صلاها, ثم ارتحل فتركه, ثم أنشأ يحدثهم, فقال: كنت أشهد اليهود يوم مدارسهم فأعجب من التوراة كيف تصدق القرآن ومن القرآن كيف يصدق التوراة, فبينما أنا عندهم ذات يوم قالوا: يا ابن الخطاب ما من أصحابك أحد أحب إلينا منك (قلت) ولمَ ذلك ؟ قالوا: لأنك تغشانا وتأتينا, فقلت : إني آتيكم فأعجب من القرآن كيف يصدق التوراة ومن التوراة كيف تصدق القرآن, قالوا: ومر رسول الله صلى الله عليه وسلم, فقالوا: يا ابن الخطاب, ذاك صاحبكم فالحق به, قال: فقلت لهم: عند ذلك نشدتكم بالله الذي لا إله إلا هو, وما استرعاكم من حقه, وما استودعكم من كتابه, هل تعلمون أنه رسول الله ؟ قال: فسكتوا, فقال له عالمهم وكبيرهم: أنه قد غلظ عليكم فأجيبوه, قالوا: فأنت عالمنا وكبيرنا فأجبه أنت, قال: أما إذا نشدتنا بما نشدتنا, فإنا نعلم أنه رسول الله, قلت: ويحكم إذاً هلكتم, قالوا: إنا لم نهلك, قلت: كيف ذلك وأنتم تعلمون أنه رسول الله ولا تتبعونه ولا تصدقونه ؟ قالوا: إن لنا عدواً من الملائكة وسلماً من الملائكة, وأنه قرن بنبوته عدونا من الملائكة, قلت: ومن عدوكم, ومن سلمكم ؟ قالوا: عدونا جبريل, وسلمنا ميكائيل, قالوا: إن جبرائيل ملك الفظاظة والغلظة والإعسار والتشديد والعذاب ونحو هذا, وإن ميكائيل ملك الرحمة والرأفة والتخفيف ونحو هذا, قال: قلت: وما منزلتهما من ربهما عز وجل ؟ قالوا: أحدهما عن يمينه والاَخر عن يساره, قال: فقلت: فو الذي لا إله إلا هو إنهما والذي بينهما لعدو لمن عاداهما, وسلم لمن سالمهما, وما ينبغي لجبرائيل أن يسالم عدو ميكائيل, وما ينبغي لميكائيل أن يسالم عدو جبرائيل, قال: ثم قمت فأتبعت النبي صلى الله عليه وسلم, فلحقته وهو خارج من خوخة لبني فلان, فقال: «يا ابن الخطاب ألا أقرئك آيات نزلن قبل» فقرأ عليّ {من كان عدواً لجبرائيل فإنه نزله على قلبك بإذن الله} حتى قرأ الاَيات, قال: قلت: بأبي وأمي أنت يا رسول الله, والذي بعثك بالحق لقد جئت أنا أريد أن أخبرك وأنا أسمع اللطيف الخبير قد سبقني إليك بالخبر, وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو سعيد الأشج, حدثنا أبو أسامة عن مجالد, أنبأنا عامر, قال: انطلق عمر بن الخطاب إلى اليهود, فقال: أنشدكم بالذي أنزل التوراة على موسى هل تجدون محمداً في كتبكم ؟ قالوا: نعم, قال: فما يمنعكم أن تتبعوه ؟ قال: إن الله لم يبعث رسولاً إلا جعل له من الملائكة كفلاً وإن جبرائيل كَفِلَ محمداً وهو الذي يأتيه, وهو عدونا من الملائكة, وميكائيل سلمنا لو كان ميكائيل الذي يأتيه أسلمنا, قال: فإني أنشدكم بالله الذي أنزل التوراة على موسى ما منزلتهما عند الله تعالى ؟ قالوا: جبريل عن يمينه, وميكائيل عن شماله, قال عمر: وإني أشهد ما ينزلان إلا بإذن الله, وما كان ميكائيل ليسالم عدو جبرائيل, وما كان جبرائيل ليسالم عدو ميكائيل, فبينما هو عندهم إذ مر النبي صلى الله عليه وسلم, فقالوا: هذا صاحبك يا ابن الخطاب, فقام إليه عمر فأتاه, وقدأنزل الله عز وجل: {من كان عدواً لله وملائكته ورسله وجبريل وميكائيل فإن الله عدو للكافرين} وهذان الإسنادان يدلان على أن الشعبي حدث به عن عمر, ولكن فيه انقطاع بينه وبين عمر فإنه لم يدرك زمانه, والله أعلم, وقال ابن جبير: حدثنا بشير, حدثنا يزيد بن زريع, عن سعيد عن قتادة, قال: ذكر لنا أن عمر بن الخطاب انظلق ذات يوم إلى اليهود, فلما انصرف ورحبوا به, فقال لهم عمر: وأما والله ما جئتكم لحبكم ولا لرغبة فيكم, ولكن جئت لأسمع منكم, فسألهم وسألوه, فقالوا: من صاحب صاحبكم ؟ فقال لهم: جبرائيل, فقالوا: ذاك عدونا من أهل السماء يطلع محمداً على سرنا, وإذا جاء جاء بالحرب والسنة, ولكن صاحب صاحبنا ميكائيل, وكان إذا جاء جاء بالخصب والسلم, فقال لهم عمر: هل تعرفون جبرائيل, وتنكرون محمداً صلى الله عليه وسلم ؟ ففارقهم عمر عند ذلك وتوجه نحو النبي صلى الله عليه وسلم ليحدثه حديثهم, فوجده قد أنزلت عليه هذه الاَية: {قل من كان عدواً لجبريل فإنه على قلبك بإذن الله} الاَيات.
ثم قال: حدثني المثنى, حدثنا آدم, حدثنا أبو جعفر, حدثنا قتادة, قال: بلغنا أن عمر أقبل إلى اليهود يوماً فذكر نحوه, وهذا في تفسير آدم وهو أيضاً منقطع, وكذلك رواه أسباط عن السدي عن عمر مثل هذا أو نحوه, وهو منقطع أيضاً: وقال ابن أبن حاتم: حدثنا محمد بن عمار, حدثنا عبد الرحمن يعني الدشتكي, حدثنا أبو جعفر عن حصين بن عبد الرحمن, عن عبد الرحمن وهو عبد الرحمن بن أبي ليلى: أن يهودياً لقي عمر بن الخطاب, فقال: إن جبرائيل الذي يذكر صاحبكم عدو لنا, فقال عمر {من كان عدواً لله وملائكته ورسله وجبريل وميكال فإن الله عدو الكافرين} قال: فنزلت على لسان عمر رضي الله عنه, ورواه عبد بن حميد عن أبي النضر هاشم بن القاسم, عن أبي جعفر هو الرازي, وقال ابن جرير: حدثني يعقوب بن إبراهيم, حدثني هشيم, أخبرنا حصين بن عبد الرحمن, عن ابن أبي ليلى في قوله تعالى: {من كان عدواً لجبريل} قال: قالت اليهود للمسلمين: لو أن ميكائيل كان هو الذي ينزل عليكم اتبعناكم, فإنه ينزل بالرحمة والغيث, وإن جبرائيل ينزل بالعذاب والنقمة, فإنه عدو لنا, قال: فنزلت هذه الاَية, حدثنا يعقوب, أخبرنا هشيم, أخبرنا عبد الملك عن عطاء بنحوه, وقال عبد الرزاق: أخبرنا معمر عن قتادة في قوله: {قل من كان عدواً لجبريل} قال: قالت اليهود: إن جبرائيل عدو لنا, لأنه ينزل بالشدة والسنة, وإن ميكائيل ينزل بالرخاء والعافية والخصب, فجبرائيل عدو لنا. فقال الله تعالى: {من كان عدواً لجبريل} الاَية.
وأما تفسير الاَية فقوله تعالى: {قل من كان عدواً لجبريل} فإنه نزله على قلبك بإذن الله, أي من عادى جبرائيل فليعلم أنه الروح الأمين الذي نزل بالذكر الحكيم على قلبك من الله بإذنه له في ذلك, فهو رسول من رسل الله ملكي, ومن عادى رسولاً فقد عادى جميع الرسل, كما أن من آمن برسول يلزمه الإيمان بجيمع الرسل, وكما أن من كفر برسول فإنه يلزمه الكفر بجميع الرسل, كما قال تعالى: {إن الذين يكفرون بالله ورسله ويريدون أن يفرقوا بين الله ورسله ويقولون نؤمن ببعض ونكفر ببعض} الاَيتين, فحكم عليهم بالكفر المحقق إذا آمنوا ببعض الرسل وكفروا ببعضهم, وكذلك من عادى جبرائيل فإنه عدو لله, لأن جبرائيل لا ينزل بالأمر من تلقاء نفسه وإنما ينزل بأمر ربه, كما قال: {وما نتنزل إلا بأمر ربك} الاَية, وقال تعالى: {وإنه لتنزيل رب العالمين * نزل به الروح الأمين * على قلبك لتكون من المنذرين}, وقد روى البخاري في صحيحه عن أبي هريرة, قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من عادى لي ولياً فقد بارزني بالحرب» ولهذا غضب الله لجبرائيل على من عاده, فقال تعالى: {من كان عدواً لجبريل فإنه نزله على قلبك بإذن الله مصدقاً لما بين يديه} أي من الكتب المتقدمة: {وهدى وبشرى للمؤمنين} أي هدى لقلوبهم وبشرى لهم بالجنة, وليس ذلك إلا للمؤمنين, كما قال تعالى: {قل هو للذين آمنوا هدى وشفاء} الاية: وقال تعالى: {وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين} الاَية, ثم قال تعالى: {من كان عدواً لله وملائكته ورسله وجبريل وميكال فإن الله عدو الكافرين} يقول تعالى من عاداني وملائكتي ورسلي, ورسله تشمل رسله من الملائكة والبشر, كما قال تعالى {الله يصطفى من الملائكة رسلاً ومن الناس}. {وجبريل وميكال} وهذا من باب عطف الخاص على العام, فإنهما دخلا في الملائكة في عموم الرسل, ثم خصصا بالذكر لأن السياق في الانتصار لجبرائيل, وهو السفير بين الله وأنبيائه, وقرن معه ميكائيل في اللفظ, لأن اليهود زعموا أن جبرائيل عدوهم, وميكائيل, وليهم, فأعلمهم الله تعالى أن من عادى واحداً منهما فقد عادى الاَخر وعادى الله أيضاً, ولأنه أيضاً ينزل على أنبياء الله بعض الأحيان, كما قرن برسول الله صلى الله عليه وسلم في ابتداء الأمر, ولكن جبرائيل أكثر وهي وظيفته وميكائيل موكل بالنبات والقطر هذا بالهدى وهذا بالرزق كما أن إسرافيل موكل بالنفخ في الصور للبعث يوم القيامة, ولهذا جاء في الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا قام من الليل يقول: «اللهم رب جبرائيل وميكائيل وإسرافيل, فاطر السموات والأرض, عالم الغيب والشهادة, أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون, اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك, إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم» وقد تقدم ما حكاه البخاري, ورواه ابن جرير عن عكرمة وغيره أنه قال, جبر, وميك, وإسراف: عبيد, وإيل:الله, وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أحمد بن سنان, حدثنا عبد الرحمن بن مهدي عن سفيان, عن الأعمش, عن إسماعيل بن أبي رجاء, عن عمير مولى ابن عباس, عن ابن عباس, قال: إنما كان قوله جبرائيل كقوله عبد الله وعبد الرحمن وقيل جبر: عبد, وإيل: الله. وقال محمد بن إسحاق عن الزهري, عن علي بن الحسين, قال: أتدرون ما اسم جبرائيل من أسمائكم ؟ قلنا: لا, قال: اسمه عبد الله, وكل اسم مرجعه إلى إيل فهو إلى الله عز وجل. قال ابن أبي حاتم: وروي عن عكرمة ومجاهد والضحاك ويحيى بن يعمر, نحو ذلك. ثم قال: حدثني أبي حدثنا أحمد بن أبي الحواري حدثني عبد العزيز بن عمير قال: اسم جبرائيل في الملائكة خادم الله, قال فحدثت به أبا سليمان الداراني فانتفض, وقال: لهذا الحديث أحب إلى من كل شيء في دفتر كان بين يديه. وفي جبرائيل وميكائيل لغات وقراءات تذكر في كتب اللغة والقراءات, ولم نطول كتابنا هذا بسرد ذلك إلا أن يدور فهم المعنى عليه, أو يرجع الحكم في ذلك إليه, وبالله الثقة وهو المستعان, وقوله تعالى: {فإن الله عدو للكافرين} فيه إيقاع المظهر مكان المضمر حيث لم يقل: فإنه عدو, بل قال: {فإن الله عدو للكافرين} كما قال الشاعر:
لا أرى الموت يسبق الموت شيءنَغّص الموت ذا الغنى والفقيرا
وقال الاَخر:
ليت الغراب غداة ينعب دائباًكان الغراب مقطع الأوداج
وإنما أظهر لله هذا الاسم ههنا لتقرير هذا المعنى وإظهاره, وإعلامهم أن من عادى ولياً لله فقد عادى الله, ومن عادى الله فإن الله عدو له, ومن كان الله عدوه فقد خسر الدنيا والاَخرة, كما تقدم الحديث «من عادى لي ولياً فقد آذنته بالمحاربة» وفي الحديث الأخر «إني لأثأر لأوليائي كما يثأر الليث الحرب» وفي الحديث الصحيح «من كنت خصمه خصمته».